أما معاني سحب اليدين ورفعهما:
فأنت تسحب يديك من أعمال الدنيا وترفعهما لتصبحا فارغتين من أي انشغال.
وأنت ترفعهما خاليتان مسلماً أمرك لله، مؤكداً على تفرغك لعبادة الله.
وأنت ترفعهما تعظيماً لله، واستسلاماً له، وليس لأحد غيره.
وأنت تسحبهما وترفعهما لتنتقل من جو الدنيا لتدخل إلى جو الصلاة.
ثم فكر في معنى وضع اليدين على بعضهما البعض، اليمنى على اليسرى:
المعنى الأول: كف الأيدي عن أي تعامل دنيوي، فلا تنشغل بأي شيء أبداً.
المعنى الثاني: رمز لتغليب الخير على الشر وأهل اليمين على أهل الشمال.
المعنى الثالث: هي هيئة وصفة السائل الذليل حين يقف بين يدي الله العزيز.
المعنى الرابع: إن ترك الحركة وتجميدها يعني ترك الأمر بالكامل لمشيئة الله.
المعنى الخامس: هي أقرب للخشوع، حين نسكن الجوارح ونمنعها من العبث.
43. تأمل معنى الدعاء "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض .." واجعله حقيقة:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بأدعية منوعة كثيرة، كان منها " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"، وعلى قمة المعاني الكثيرة لهذا الدعاء يأتي التعهد الصادر منك بأنك وجهت وجهك لله وأن صلاتك لله، وأن كل عباداتك لله، قف عند هذا التعهد، تأمله كي تنفذه، فتبقي وجهك وقلبك موجهاً لله، واجعل الأمر حقيقة وليس ادعاءً كاذباً تدخل به الصلاة فتزداد إثماً، بل حقيقة صادقة تزداد بها رفعة عند الله وشوقاً إليه، وهذا يتحقق بصدق النية أولاً، وصفائها لله، ثم بترك أمور الدنيا خلفك لإفراغ قلبك منها قبل الدخول للصلاة، فتدخلها ولا هم لك إلا مرضاة الله، ولا ملجأ لك إلا الله.
44. ليكن لديك قائمة طلبات تدخل بها الصلاة، وكلك أمل في الاستجابة:
لا شك بأن كل واحد منا مر بتجربة الحاجة، فتوجه لله بالدعاء أثناء الصلاة، فصلى ولم تكن على نفس رتابة الصلوات الأخرى، بل أحسن؛ وذلك طمعاً في الاستجابة لحاجته، والله كريم، وكلنا بحاجة إليه، فلو درسنا هذه النقطة وهي " أن الحاجة تحسن من الأداء طمعاً في الاستجابة " لوجدنا أنه يمكن أن نستفيد منها بالخشوع لله أولاً، ثم تحقيق حاجات لنا ندخل بها الصلاة ،لذلك جهز في ذهنك حاجة لك أو حاجات وادخل إلى الصلاة وكلك أمل بالله في الاستجابة لمطلبك فيحصل التفاعل المؤدي للخشوع في الصلاة نظراً لحاجتك، فإن لم يكن لك حاجات في الدنيا فاطلب من الله المغفرة في الآخرة، فأكثر ما يكون الدعاء استجابة في لحظات الخشوع فالله يقول في كتابه العزيز: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(الانبياء:90).
45. لا تغمض عينيك في الصلاة، فليس ذلك من الخشوع، بل فيه خطورة السهو، وأغمض عينيك إذا حدث أمامك شيء ما ولا تتابعه بنظرك:
عندما تكون في الصلاة واقفاً بين يدي الله عز وجل فهل تغمض عينيك، وهل هذا هو تعبير المحب المشتاق لله، لا.. فإغماض العينين تعبير عن عدم الرغبة في رؤية ما أمامك، وإغماض العينين يفتح الباب أمام التخيلات وشرود الذهن وبالتالي فقدان الخشوع، لذلك أبقِ عينيك مفتوحتين، فليس الخشوع في إغماضهما، ولكن قد يصدف أن يحدث أمر أمامك أو على إحدى الجوانب، فإن تابعت الأمر بنظرك سوف تخرج من خشوعك، في هذه الحالة ينصح بإغماض العينين لفترة حتى يمر الحدث أو ينتهي، ثم بعد ذلك تفتح عينيك، إذن فالأصل عدم إغماض العينين.
تقدم أن الأصل هو فتح العينين ولكن تحدث أمام المصلي أشياء كثيرة يصعب فيها على المصلي إبقاء عينيه مفتوحتين، وإن تابع ما يحدث خرج من خشوعه، لذلك ينصح في هذه الحالة، بل ويفضل، أن تغمض عينيك ولا تتابع الحدث الذي أمامك فتنشغل به وتخرج من الخشوع، ولكن الأفضل من ذلك هو أن تضيق من دائرة الرؤيا التي أمامك، وذلك بالنظر إلى موضع سجودك فقط، ولا تتابع شيئاً أمامك أصلاً.
46. أطلق لعينيك العنان في البكاء، ولا تحبس دمعك؛ فهو مؤشر للخشوع:
البكاء شيء من رقة القلب وهو معاكس لقسوة القلب، والبكاء يزيد الإنسان خشوعاً لله، هذا ما تقرره الآية الكريمة: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)(الاسراء:109)، أما حبس الدمع والعين عن البكاء فهو من التكبر، كي لا يبدو متذللاً ، علماً بأن الخشوع هو في التذلل لله، ففي الحديث الشريف: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً"، وفي حديث شريف آخر: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. وذكر منهم "ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"، وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزير كأزير المرجل من البكاء . هذه الأحاديث الشريفة مع الآية الكريمة تبين بجلاء أن البكاء تعبير صادق عن الخشوع، والتعلق برحمة الله، لذلك كان الجزاء الجنة، فإن كان الأمر كذلك فلم نخفي البكاء أو نحبسه وهو تعبير عن شفافية القلب، بل المطلوب زيادته، والتباكي حتى يرق القلب إلى الله وتذهب قسوته، فالقلب القاسي هو الذي لا يعرف البكاء، والبكاء دليل على التذلل لله لدرجة البكاء بين يديه وفي ذلك تعظيم لله وصدق في طلب الحاجة من قاضي الحاجات.
47. وجِّه نظرك في الصلاة إلى مكان سجودك ولا ترفع رأسك عالياً:
إن الوقوف في الصلاة مع رفع الرأس وتوجيه النظر إلى أعلى ليس له معنى في الصلاة إلا التكبر؛ لأن الصلاة في معناها تذلل لله وانكسار ووقار، وهذا لا يستقيم إلا بتوجيه النظر إلى الأرض، وبالذات إلى موقع السجود، وهذا الموقف شائع ومعروف عند من يقفون بين يدي السلطان، فتراهم خشعاً أبصارهم لا يرفعونها بوجه السلطان أبداً، والله أحق بهذه الوقفة، لذلك فلنعطِ الله حقه، ونحذر من الوقوع في خطأ غير مقصود، ثم إن النظر إلى الأعلى لا يحمل أي معنى من الخشوع، في حين أن النظر إلى موقع السجود، يسكن النفس ويذكرها أنها من التراب وإلى التراب سوف تعود، فالنظر إلى موقع السجود هو الوقفة الصحيحة بين يدي الله جلت عظمته، فإذا ما فهمنا هذه المعاني، كان ذلك سبباً مساعداً لنا على الخشوع في الصلاة.
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم".