ويتفرع على كل ما ذكرنا ضرورة التحذير من خطر سريان وانتشار هذا المرض في الوسط الإسلامي لما يجده المتتبع لبعض الأدبيات الإسلامية من أنه توجد شرائح ليست قليلة بما فيها بعض التيارات ذات النفوذ الواسع لا ترى أهمية أو ضرورة في التعاطي مع الرأي الآخر وذلك على خلاف ما تعيشه التجمعات والدول الكبيرة وأخذ الحال بنا وكأننا نعيش القرون الوسطى التي حجر فيها الرأي الآخر وأغلقت الابواب دونه ونصبت محاكم التفتيش فقد أحرق جيوردانو برونو من اجل افكاره حيث اعتقلته محاكم التفتيش في البندقية عام 1592م بسبب آراءه وتم احراقه حياً في 17 شباط فبراير عام 1600م وكان عمره 52 عاماً، وأهم كتبه العلة والمبدأ الواحد الذي كتبه عام 1584م40.
وواقعنا الإسلامي وإن لم يعرف هذه الحدة من الصراع العنيف بين الرأي والرأي الآخر إلا أن التراشق الإعلامي الاسقاطي في بعض ادبياتنا وكتبنا يلوح بخطر السير قسراً إلى هذا المستوى من الصراع. ومن هنا كان لابد من التحذير من خطر التعصب للرأي ومن أهم الاخطار التي يخلفها الغلو والتعصب.
1ـ الهدم والجمود
ذكرنا أن الإسلام دين العقل والحرية ـ ضمن ضوابط معينة ـ ولذا نجد القرآن يتحدث في عدد من آياته عن العقل والتعقل والتفكر التي هي دعوة إلى وجود الثنائية والتعددية في الرأي لأن العقل يعني الاختلاف المسبب للتنافس البنّاء ومن هنا كان التفكر عبادة يثاب عليه المرء لما يحويه من قدرة على النقلة النوعية واستصدار القرارات الكبيرة التي قد يكون لها الأثر الفعال وحين تسود أجواء الاستبداد والتفرد بالرأي يسود معها الجمود والتحجر والعجز عن استيعاب وفهم الآخر. ومؤدى ذلك إلى ظهور حب السيطرة الفكرية وموت الإبداع وسيادة مفهوم التفرد ما هو إلا تمثل للفكرة القائلة (لا تفكر فنحن نفكر عنك) وهذا قتل للإبداع وموت للعقل وضمور للفكر. وفي ذلك يكمن سقوط الجماعات والدول والأمم والحضارات والقراءات التاريخية لمعظم الأمم والحضارات تعطينا هذه النتيجة الحتمية وهي أن سقوطها مرهون بتفردها ونموها مرهون بتعاطيها مع الغير والقرآن يجعل سقوط حضارة قوم فرعون بسبب تفردها كما يقرر القرآن الكريم على لسان فرعون (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين).
وواقعنا المعاصر يعاني من مشكلتين في آن واحد، فالمشكلة الأساسية ليست هي عدم فهم المشكلة وحسب، وإنما أن نعمم فهمنا على الآخر ونقسره على الإيمان به والتعاطي معه من خلال نظرتنا التي قد لا تكون الأفضل والأصح، وهذه من أهم المشكلات التي ورثناها من التخلف الفكري للجماعة والتجمع والجهة... ومن المفاهيم الخاطئة التي انتحلناها من غيرها.
2ـ صنمية الفكرة والجهة..
لأن الانفتاح على الآخر ضرورة يقرها النظام الكوني والتشريعي والاجتماعي باعتبار حاجة الإنسان إلى الآخر وهو النظام الأكمل الذي جبل الكون عليه وحين يسير الفرد في الوجهة المعاكسة فإن ذلك محاولة لخرق هذا القانون مما يترك آثاراً سلبية سيئة ومن أهمها صنمية الفكر والشخص وقد يؤدي إلى التقديس الأعمى لكل هذه المفردات وهذا بداية السقوط غير المحسوس، لأن مرد هذا إلى الانانية والاعجاب بالنفس والفكر.. وهو من أبرز عوامل الجمود والتوقف عن السير في الخط الإيجابي كما يقول علي… (الإعجاب يمنع الازدياد).
وهو مهلكة لصاحبه كما ورد عن الصادق… (من دخله العجب هلك(.
وقديماً قال ارسطو: من يعيش الاكتفاء المطلق فهو وحش أو آلة وكثيرة هي المدارس الفكرية التي عبدها اتباعها بسبب التعصب واضفاء حالة القدسية عليها أو على مبدعيها، والرأي الآخر في قبالها ما هو إلا اجتهاد مقابل النص ومن هنا أقفل باب الاجتهاد عند بعض المدارس الإسلامية مكتفية بما توصل إليه علماء السلف مما أدى إلى تعطيل جانب كبير من العقل.
3ـ الترهل الفكري
وكنتيجة طبيعية وحتمية للتعصب ـ بعد الجمود والصنمية ـ يأتي نشوء الفكر المترهل البسيط غير القادر على الابداع. لأن الجمود ينعكس على تراجع دور الفكر والتثقيف داخل الحركات السياسية بما فيها العقائدية، فإذا كان الكسل الفكري هو الوجه الأول لضحالة بعض هذه الحركات والأحزاب فإن انعدام التثقيف الداخلي هو الوجه الآخر لهذه الضحالة التي كثيراً ما تجعل هذه الحركات تفقد بريقها ووهجها وقدرتها على الاستقطاب ناهيك عن قدرتها على التجديد والابتكار والابداع الذي هو في النهاية ثمرة تراكم جهد فكري وثقافي ونضالي..