تتحدى الدراساتُ الكمّية المُدقَّقة للعلاج النفسي
بعض الآراء الشائعة عن الكيفية التي يعمل بها
العقل الباطن والطريقة التي يتقدم بها المرضى تحت العلاج.
كيف يعمل العلاج النفسي psychotherapy؟ في السنوات العديدة الماضية عثرت مع زملائي من فريق بحث جبل صهيون للعلاج النفسي بسان فرانسسكو على بعض الإجابات المثيرة للدهشة عن هذا السؤال وعن سؤال آخر وثيق الصلة به ولا يقل عنه عمقا ـ ألا وهو كيف يعمل العقل الباطن؟
يسود الاعتقاد أنه ليس باستطاعة البشر أن يؤدوا من دون وعي (شعور) الأنشطة الذهنية نفسها التي يؤدونها وهم في حالة الوعي، مثل رسم الخطط وتقدير المخاطر. بيد أن دراستنا للمرضى تحت العلاج النفسي تشير إلى أن البشر في الحقيقة بإمكانهم، ومن دون وعي منهم، التفكير وتوقع النتائج وأخذ القرارات ورسم الخطط وتنفيذها. وأكثر من ذلك أن المرضى يستعينون بهذه القدرات في سعيهم لشفاء أنفسهم، أي سعيهم للتحكم في معتقداتهم ومشاعرهم وسلوكياتهم اللاعقلانية.
إن معظم الآراء الخاصة بعمل العقل الباطن والعملية العلاجية قد طورها المعالجون النفسانيون على أساس من الانطباعات السريرية (الإكلينيكية) المُسجَّلة على هيئة ملاحظات أو المُسترجَعة من الذاكرة. كان هذا التوجه خصبا انبثقت منه آراء جديدة، ولكنه عجز عن تقييم الأهمية النسبية لهذه الآراء. ومن ثم ذهب فريق بحث جبل صهيون للعلاج النفسي، ذلك الفريق الذي أشارك في إدارته مع زميلي ، إلى أبعد من الأسلوب الإكلينيكي، مفضلا بدلا من ذلك الاعتماد على البيانات الثابتة والقيام بفحوصٍ لكمية مدقَّقة سبق إعدادها لاختبار فرضيات محدَّدة.
ركزت دراساتنا على مقارنة مزايا فرضيتيْن من فرضيات التحليل النفسي (الفُرْويْدي Freudian) عن طبيعة عمل العقل الباطن. والفرضيتان يمكن تقييمهما تجريبيا (خِبْرِيًّا) empirically لأنهما يتيحان لنا تنبؤات محددة قابلة للاختبار عن الطريقة التي يسلك بها المرضى في أثناء العلاج.
تفترض نظرية التحليل النفسي أنه بدءا من الطفولة المبكرة تُدْفَن «المحتويات الذهنية» mental contents القوية (الأفكار والمشاعر) التي لا تتقبلها الذات الواعية تحت ما يُعرف بحاجز الكبت repression barrier الذي يضم القوى التي تحول دون وصول المادة المكبوتة إلى حد الوعي. بيد أن المادة المدفونة ـ التي كان يعتقد في أول الأمر أنها تتكون أساسا من نزوات (دوافع) impulses جنسية وعدوانية والتي استنتج فيما بعد أنها تشمل كذلك المعتقدات والأحكام وبعض المشاعر مثل الخزي (الخجل) والشعور بالذنب ـ تستمر في تأثيرها على المزاج والسلوك. وبذا فهي تضيف إلى الأعراض التي تدفع بالبشر إلى العلاج، مثل الاكتئاب الذي لا يمكن تفسيره، والقلق الذي لا أساس له والسلوك الصعب التكيف وكلها على ما يبدو مستعصية على التحكم الواعي.
ولأن حاجز الكبت يحد من معرفة البشر الواعية بالأسباب التي تتحكم في تصرفاتهم أو مشاعرهم وبذا يحد من تحكمهم في أجزاء من شخصياتهم فلا بد أن تكون الركيزة الرئيسية للعلاج التحليلي النفسي هي مساعدة المرضى على التخفيف من مكبوتاتهم ومواجهة ما هو مكبوت. فيطلب المعالِج إلى المرضى أن يقوموا بما يسمى بالتداعي الحر للأفكار free-associate، أي أن يُعبِّروا في كلمات عن أي أفكار أو صور أو ذكريات ترد على الخاطر. هذه التداعيات تؤدي إلى إيجاد المفاتيح التي تساعد على فهم دوافع المرضى واهتماماتهم غير الواعية. وبذا يمكن للمعالِج أن يفسر ما يصرح به المرضى وأن يُظهِر ما يبدو أنه دفين من الرغبات والمخاوف والمعتقدات أو الشعور بالذنب أو ما شاكل ذلك. وعلى ما يبدو فتفسيرات المعالِج تساعد على تبصير المرضى بآثار العقل الباطن في أفكارهم ومشاعرهم وسلوكهم الواعي.
وبالرغم من تطابق الفرضيتين اللتين قمنا بفحصهما مع المبادئ الجوهرية لنظرية التحليل النفسي، فإنهما تقدمان افتراضات مختلفة اختلافا بيِّنًا عن درجة التحكم التي يمكن للبشر ممارستها على عمل العقل الباطن. فالفرضية الأولى والأكثر تأثيرا وهي ما أدعوه بالفرضية الديناميكية dynamic hypothesis وتشتق أساسا من كتابات فرويد المبكرة، وتفترض أن البشر لا يملكون إلا القليل من التحكم أو لا تحكّم مطلقا على حياتهم العقلية اللاشعورية. وتطرح هذه الفرضية فكرة تكوين العقل الباطن في جُلِّه من نوعين من القوى. فمن جهة هناك الدوافع الجنسية والعدوانية التي تسعى نحو الإشباع وتندفع نحو الإحساس الواعي، ومن جهة أخرى هناك القوى المكبوتة التي تقاوم هذه الدوافع. وتتفاعل الدوافع والمكبوتات ديناميًّا كما تتفاعل قوى العالم المادي. فالقوتان المتساويتان والمتعارضتان مثلا قد تلغي الواحدة منهما الأخرى وقد تقهر القوة الشديدة قوة أخرى أضعف منها. ومن خلال تفاعلاتهما تحدد هاتان القوتان السلوك.
أما الفرضية الأخرى، التي أسميها فرضية التحكم غير الواعي (أو ببساطة أشد، فرضية التحكم control hypothesis) فتفصِّل آراء فرويد التي طرحها بإيجاز في كتاباته المتأخرة. وتفترض أن البشر بمقدورهم التحكم بِقَدْرٍ في عمل العقل الباطن. ووفقا لهذه الفكرة، يحتفظ البشر بالدوافع وغيرها من المحتويات العقلية مكبوتة ليس لأن قوى الكبت هي بالضرورة أقوى من الدوافع اللاواعية ولكن لأن الأفراد يمكن أن يقرروا ومن دون وعي (بالتخمين أو التقدير من الخبرة الماضية أو بتقدير الواقع الحالي الحي) إن الإحساس بما هو مكبوت أو التعبير عنه قد يهدد بالخطر. فقد يقرر المرضى مثلا أن البَوْح بالحب لشخص آخر ربما يؤدي إلى الصد أو الذلة والمهانة.
كما تفترض فرضية التحكم أن المرضى تحت العلاج تكون لديهم رغبة لاواعية قوية للتحسن، لذا فهم يرغبون من دون وعي (وكذلك بوعي) في أن يطرحوا المحتويات العقلية المكبوتة وأن يكتشفوا أهميتها. ومن ثم فقد يقررون بدون وعي منهم التحرر من المكبوتات والسماح للخبرة (المادة) المخبوءة أن تُسْفِر عن ذاتها، هذا إذا شعروا أن ذلك لا يشكل خطرا عليهم.
قارنّا كلا من الفرضية الديناميكية وفرضية التحكم بفحص التفاسير المختلفة التي تطرحانها لبعض الأحداث التي تحدث عادة في أثناء العلاج ومن ذلك حين يصبح المرضى تلقائيا مدركين للخبرة اللاواعية (مثل العداء نحو الإخوة والأخوات أو الأقرباء) من دون أن يكون قد سبق وذكرها المُعالِج.
وفي شرح ظاهرة العلاج هذه، تُبرز الفرضيتان بعض الملامح الخاصة للعلاقة بين المريض والمعالج. فالعلاقة مهنية وسرية خالصة وهي لا تتجاوز حدود العمل الرسمي، كما يتخذ المعالج فيها نحو مرضاه موقفا حياديا تحليليا. بيد أن كل فرضية تركز على مظهر مختلف من هذه العلاقة.
تركز الفرضية الديناميكية على الإحباطات التي يثيرها موقف المعالج. فتفترض أنه في أثناء العلاج يصبح المعالج هدفا لدوافع المريض اللاواعية، فقد يُوجَّه العِداءُ المكبوت عند المريض تجاه قريب منافس له إلى الطبيب المعالج نفسه لدرجة يصبح معها المريض، من دون وعي، غاضبا من المعالج. بيد أن دوافع المريض اللاواعية ربما تصاب بالإحباط نتيجة حَيْدة المعالج وبذا تشتد في عنفها ـ مثلها مثل الجوع إذا لم يتم إشباعه زادت ضراوته. وتنطلق الدوافع المُحَبطَةْ بضغط متزايد نحو مستوى الوعي لكن الضغط المعاكس لحاجز الكبت يحول في أغلب الأحوال بينها وبين الوصول إلى مستوى الإدراك.
ووفقا للفرضية الديناميكية قد يصل الدافع المُشْتَدّ intensified impulse تلقائيا إلى حدود الوعي على الرغم من حاجز الكبت بطريقتين. في الأولى قد يصبح الدافع، مقارنة بقوى الكبت، قويا جدا لدرجة يقهر معها هذه القوى، ويخترق حاجز الكبت. فقد يثور المريض مثلا كردة فعل على استثارة ولو طفيفة من جانب الطبيب المعالِج.
كما قد يدخل الدافع المُحبَط والمُشتَد إذا كان مستترا ـ نطاق الوعي بحيث يصبح ما يتم الوعي به صورةً جدّ مخففة من الدافع الأصلي. وبما أن هذا التخفي يستر شدة الدافع الأصلي وقوته الدافعة فإن الشكل المخفف منه يفلت من قبضة قوى الكبت المعتادة. مثال ذلك أن يُدْخِلَ الشعورُ بالغضب من الطبيب المعالج نطاق الوعي لدى المريض على شكل رغبة جامحة حمقاء منعزلة ظاهريا، إلا وهي الإيقاع بالطبيب.
يتبع