آثار ضيق الأفق أو قصر النظر:
آثاره على العاملين:
1- تبديد الجهد وهدر الطاقات: في أمور نافعة ومفيدة لكنها ثانوية، بل هامشية، وإذا بدّدت الجهود، وأهدرت الطاقات في مثل هذه الأمور، فإن المسلم العامل سيعجز بعد ذلك، ويفقد القدرة على مواجهة المهام الجسام، والتبعات الضخمة.ولعل هذا الأثر هو المفهوم من توجيه القرآن للمسلمين أوّل مرة: أن يقيموا الإسلام في أنفسهم، وأن يحسنوا الترابط فيما بينهم:} قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[14]وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[15]{ “سورة الأعلى” }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[10]{ “سورة الشمس” دون أن يستجيبوا لأي إثارة، أو يردوا على أي أذى أو اضطهاد يوجه إليهم من عدوهم: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ{ “سورة النساء” }وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ[97]فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ[98]وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[99]{ “سورة الحجر”.كل هذا من أجل أن تنمو طاقاتهم، وتتضاعف جهودهم، بل ويحتفظ بهذه الجهود، وتلك الطاقات لتوجه نحو النافع، والمفيد، في الوقت المناسب وفي اللحظة المناسبة، وقد كان .. فإن أولئك الذين جاهدوا أنفسهم وترابطوا فيما بينهم، وأوذوا، فصبروا طول المرحلة المكية، وسنتين من المرحلة المدنية، نجحوا في أول مواجهة مع عدوهم في بدر، رغم عدم التكافؤ بين الفريقين، لا في العدد، ولا في العُدد، وسجّلت لهم صور تدل على مدى امتلائهم وشحنهم من داخلهم ضد أعداء الله وأعدائهم، ولعل من أبرز هذه الصور ما صنعه بلال بن رباح مع أمية بن خلف:
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: [ كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ ابْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ ] رواه البخاري .
2- اليأس والقنوط: وذلك أن ضيّق الأفق، أو قصير النظر، سيواجه في طريقه كثيرًا من العقبات والصعاب، ولن يستطيع؛ لضيق أفقه، أو لقصر نظره استيعاب هذه العقبات، وتلك الصعاب، ومحاولة التغلب عليها، وتكون النتيجة: اليأس والقنوط، بل القعود عن أداء الدور والقيام بالواجب. ولعمري ذلك هو أهم ما يسعى إليه أعداء الله؛ ليخلو لهم الجو، ويفسح أمامهم المجال
خلال لكِ الجو، فَبِيضي، واصفِري
3- قلة بل تلاشي كسب الأنصار والمؤيدين: ذلك أن ضيّق الأفق، أو قصير النظر نادرًا ما يحالفه التوفيق والنجاح، ومن يفقد التوفيق والنجاح؛ لايبقى لديه ما يغري به الناس، حتى يكسب منهم نصيراً، أو على الأقل مؤيدًا، والواقع يؤيد ذلك: فكم من ضيّق أفق أو قصير نظر، يعيش ويموت، وليس من حوله إلا أفراد يعدون على الأصابع، فضلاً عن نفور كثير من الناس منه، وإعراضهم عنه.
4- الحرمان من التوفيق الإلهي: ذلك أن ضيّق الأفق، أو قصير النظر، يريد من كل الناس السير وفق تصوره الضيق، ورؤيته المحدودة، ولن يستجيب له الناس، وحينئذ يسلقهم بألسنة حداد، ويجعل من لحومهم غذاءً شهيًا، وأنى لمن يلغ في أعراض الناس، ويعيش على لحومهم، أن يمنحه ربه توفيقًا أو تأييدًا؟!
آثاره على العمل الإسلامي:
1- التشويه: ذلك أن ضيق الأفق، وقصر النظر سيوجّه العمل الإسلامي إلى علاج المشكلات عن طريق المسكنات، دون النظر في الأسباب، وبترها من جذورها على النحو الذي ذكرنا آنفًا، ومثل هذا الأسلوب في العمل غير مجد، فضلاً عما سيصاحبه من طول الطريق، وكثرة التكاليف، وحينئذ يجدها أعداء الله فرصة للتشويه، وتقديم الإسلام وصورة العمل له، على أنهما غير قادرين على مواجهة مشكلات العصر، ووضع الحلول المناسبة لها.
2- المصادرة: وذلك أن العمل الإسلامي يواجه كثيرًا من العقبات والصعاب التي يضعها أعداء الله في طريقه، وضيق الأفق أو قصر النظر سيؤدي إلى الصدام بهذه العقبات وتلك الصعاب، وعدم القدرة على استيعابها أو التحايل عليها، وحينئذ تكون المصادرة، وعدم السماح بالاستمرار.
3- الضرر، أو على الأقل الإجهاض: وذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر سيحرم العمل الإسلامي من الأنصار والمؤيدين، بل من التوفيق والعون الإلهي، ويوم يحرم العمل الإسلامي من ذلك، فإنه يسهّل على أعداء الله ضربه، أو على الأقل إجهاضه، والرجوع به إلى الوراء عشرات السنين.