تحصل لنا مما سبق أن الصحبة مفتاح لكل خير، بل إنها جسر المرور لكل طالب نيل الدرجات العليا في الإسلام: أي الإحسان.
ولكن هل كل صحبة تفيد؟ هل كل صحبة تؤدي إلى الإحسان؟
إن الجواب عن هذا السؤال ضروري حتى لا يستغفل طالبو وجه الله عز وجل، فيسيئون الاختيار من حيث كانوا يرجون الإحسان.
ولهذا درج أولياء الله الصالحين المصلحين على التنبيه كثيرا إلى هذا الأمر. يؤكد الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين أنه لابد من توفر شرط في الصاحب وآخر في المصحوب "وإنما ينفع الله عز وجل المؤمن الصادق الجاد في الإقبال على ربه أول ما ينفعه بصحبة رجل صالح، ولي مرشد، يقيضه له، ويقذف في قلبه حبه .. ومتى كان المصحوب وليا لله حقا والصاحب صادقا في طلبه وجه الله ظهرت ثمرة الصحبة" (1)، بل إنه يزيد ضابطا آخر للأمر يتعلق بمضمون هذه الصحبة فيقول "الصحبة في الله إن كان لا يغذوها ذكر الله لا تلبث أن تصبح ألفة طبيعية تولد عصبة مفرقة"(2) ويضيف بأن كمال المصحوب له أهمية قصوى "وعلى قدر المصحوب إيمانا وإحسانا وولاية ينتفع الصاحب"(3).
أما الشرط في الصاحب فهو الصدق، وفي هذا يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين: "لا يصدق في طلب الله عز وجل منافق أبدا، ولا جاهل بأن الله عز وجل يُراد ويُطلب ما دام جاهلا. ولا متكبر لا يُصدِّق الله عز وجل الذي أخبرنا في الحديث القدسي أنه تعالى مع الجائع الظمآن، والمريض والأشعث الأغبر، ولا هاوٍ يستلطف مجالسة فلان وفلان. الصدق في القلب بينك وبين الله تعالى، لا يستطيع عبد أن يعالج مرضك وخللك من جانب الصدق. لا يقترب من ذلك إلا تصفحك لنفسك صباح مساء، ومقارنة تخاذلك باجتهاد غيرك أحياء وأمواتا، وبكاؤك على ربك الكريم أن يمسح غبار الغفلة وعفن الاستغناء بمكاسبك من الطاعات مهما كانت، واستعانتك بإخوتك في مجالس النصيحة، تسمع وتشارك، وتحضر وتواسي بنية المحتاج لا بالتصدر للرئاسة. إنه لا يرقد في قبرك غيرك، ولا يتبوأ مقعد الصدق عند الله تعالى من يتسلق على أعين الناس وقلبه هواء خواء من صدق الطلب، وصدق الهجرة، وصدق النصرة، وصدق الحاجة إلى المولى."(4).
لدقة هذا الموضوع وحساسيته فإنه عرف نقاشا وجدالا واسعين على مر التاريخ الإسلامي، وأحيطت به شبهات كثيرة حرفت الموضوع عن سياقه ونقصت من أهميته.
من القضايا التي حرفت القصد من الصحبة مسألة "التسليم" و"إسلاس القياد" فحملها البعض على غير محملها الحقيقي، وحول هذا يقول الأستاذ البوطي "ومن الشروط التربوية في الإرشاد والتسليك، أن يكون المرشد كاملا ليستطيع أن يكون مكملا، ثم أن يوليه المريد السمع والطاعة لكل ما يأمره به وينهاه عنه. وما دام هذان الطرفان من الشرط متوفرين، فهو شرط سليم لا إشكال فيه ولا رد عليه. ولكن فقد أحد الطرفين يجعل وجود الثاني لغوا لا مسوغ له"(5) وهذا ما تأكد لنا من الكلام السابق: "على قدر المصحوب إيمانا إحسانا وولاية ينتفع الصاحب".
وهو ما أكده الصوفية الصادقون، والرسالة القشيرية مصدر لمن أراد الاطلاع على علوم القوم "ولا ينبغي للمريد أن يعتقد العصمة في المشايخ، بل الواجب عليه أن يذرهم وأحوالهم، فيحسن بهم الظن، ويراعي مع الله تعالى حده فيما يتوجه إليه من الأمر والعلم، مما يكفي التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول"، وعن حفظ آداب الشريعة يقول: "وبناء هذا الأمر وملاكه على حفظ آداب الشريعة وصون اليد عن امتدادها إلى الحرام والشبهة، وحنط الحواس عن المحظورات، وعن الأنفاس مع الله تعالى عن الغفلات، وأن لا يستحيل سمسمة فيها شبهة في أوان الضرورات، فكيف عند الاختيار، وقت الراحة"(7).
من القضايا الأخرى ما يرتبط بصحبة التبرك، أي الاكتفاء بالمحبة دون اتباع وفي هذا يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين: "لكن احترام الأولياء من بعيد، ومحبتهم بلا صحبة، والثناء عليهم دون أن يكون الثناء حافزا لنا على اللحاق بهم، أعمال لا تثمر إيمانا وإن أثمرت ثوابا، ومن الناس من يحترم الأموات، ويحب الأموات، ويثني عليهم وحدهم، معتقدا أنه لا ولي له من معاصريه، هؤلاء يحرمون ثمرة صحبة الصالحين"(8)، وهذا يقودنا إلى أن الصحبة لا تتحقق إلا مع مصحوب حي، وإلا فإنه التبرك وكفى.
قضية أخرى لابد من إثارتها مرتبطة بهم الأمة، وبشق آخر من الدين لأن الله تعالى أمر بالعدل والإحسان مقترنين، ولذلك فالمصحوب الكامل هو من يجمع بينهما معا، وهذا ما أكده الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين "الصحبة مع ذكر الله والاجتماع عليه بدون مشروع جهادي يتحدث عنه، وينفذ، ويستعد لتنفيذه باختيار العناصر واختبارها، صحبة وجماعة لا يعدو خيرها دائرة أفراد منقطعين عن المجتمع كأنهم أعضاء مشلولة فيه"(9) ولذلك فهو يضيف شروطا أخرى للمصحوب "نعتبر شيخا ومربيا صالحا للجهاد من آتاه الله من فضله زيادة على ما يؤتى أحباؤه من شر، وفتح، وكشف، ومعرفة بربه، وتقوى، واتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مزية لا تعدلها بالنسبة لمستقبل الأمة- مزية، خصلة من خصال الإيمان لا تعدلها خصلة بالنسبة لمستقبل الأمة، ألا وهي جمع الجماعة والحفاظ على وحدتها. يشجع جند الله على صحبة من ظهر فضله من صالحي الأمة وعلمائها العاملين بشرط، هو أن لا تتنافى تلك الصحبة مع الجماعة، أي لا يغلب جانب التأمل، والذكر المنفرد، والتقوى الانعزالية، والخلوة القاعدة، جانب التحرك والجهاد لإقامة الدولة الإسلامية والخلافة على منهاج النبوة". (10)
إن صحبة توفرت فيها هذه الشروط وتجنبت هذه المزالق جدير بها أن تكون مفتاحا للسلوك إلى الله عز وجل لطالب وجه الله الكريم.
كان الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله يقول " اصحب أرباب القلوب حتى يصير لك قلب. لا بد لك من شيخ حكيم عامل بحكم الله عز وجل يهذبك ويعلمك وينصحك" (11) انظر رحمك الله في مواصفاته. حكيم.. وعامل بحكم الله.
لا تستصعب الأمر وتظن أنه غير موجود فلا تخلو الأرض من ولي لله قائم بحجة، وما عليك إلا أن تصدق في الطلب والله تعالى الميسر.
يسر الله لنا صحبة صالحة تنفعنا في الدنيا وترفعنا في الآخرة إلى المقامات العلا. آمين