((نقطة من البحر المحيط))
في ساعات الصفاء حينما تنقشع
الغواشي عن القلب و تنجلي البصيرة، و أرى كل شيء أمامي بوضوح، تبدو لي
الدنيا بحجمها الحقيقي و بقيمتها الحقيقية، فإذا هي مجرد رسم كروكي أو
ديكور مؤقت من ورق الكرتون، أو بروفة توزع فيها الأدوار لاختيار قدرات
الممثلين، أو مجرد ضرب مثال لتقريب معنى بعيد و مجرد و هي في جميع الأحوال
مجرد عبور و مزار و منظر من شباك في قطار
و هي الغربة و ليست الوطن
و هي السفر و ليست المقر
أعجب
تماما و أدهش من ناس يجمعون و يكنزون و يبنون و يرفعون البناء و ينفقون
على أبهة السكن و رفاهية المقام.. و كأنما هو مقام أبدي.. و أقول لنفسي
أنسوا أنهم في مرور؟
ألم يذكر أحدهم أنه حمل نعش أبيه و غدا يحمل
ابنه نعشه إلى حفرة يستوي فيها الكل؟.. و هل يحتاج المسافر لأكثر من سرير
سفري و هل يحتاج الجوال لأكثر من خيمة متنقلة؟
و لم هذه الأبهة الفارغة و لمن؟. و لم الترف و نحن عنه راحلون؟
هل نحن أغبياء إلى هذه الدرجة؟
أم هي غواشي الغرور و الغفلة و الطمع و عمى الشهوات و سعار الرغبات و سباق الأوهام؟
و
كل ما نفوز به في هذه الدنيا وهمي، و كل ما نمسك به ينفلت مع الريح. و
الذين يتقاتلون ليسبق الواحد منهم الآخر أكثر عمى، فالشارع سد عند نهايته
و كل العربات تتحطم و يستوي فيها السابق باللاحق، و لا يكسب أحد منهم إلا
وزر قتل أخيه.. بل إن أكثر الناس أحمالا و أوزارا في هذه الدنيا هم الأكثر
كنوزا و الأكثر ثراء، فكم ظلموا أنفسهم ليجمعوا، و كم ظلموا غيرهم
ليرتفعوا على أكتافهم
. و لعلنا سمعنا مثل هذا الكلام و نحن نلهث
متسابقين على الطريق.. فهو كلام قديم قدم التاريخ رددته جميع الأسفار و
قاله جميع الحكماء و لكنا لم نلق له بالا و لم يتجاوز شحمة الأذن. و
مازلنا نسمع و لا نسمع برغم تطور أدوات الاستماع و كثرة الميكروفونات و
مكبرات الصوت، و لاقطات الهمس الإلكترونية من فوق الفضاء و من تحت الثرى
و مازلنا نزداد صمما عن إدراك هذه الحقيقة البسيطة الواضحة و كأنها طلسم مطلسم و لغز عصي على الأفهام
هل نحن مخدرون؟
أم
هناك ما هو أقوى أثرا و أكثر شراسة من الخمور و المخدرات، هي مادية العصر
التي طبعت الناس بذلك الشعار المسكر؟ غامر و اكسب.. و انهب و اهرب.. و
سارع إلى اللذة قبل أن تفوتك.. و عش لحظتك بملئها طولا و عرضا و لا تفكر
ماذا بعد فقد لا يكون هناك بعد
نعم تلك هي الخدعة التي يستدرج
إليها الكل.. إنه لا شيء سوى ما نرى و نسمع و نذوق و نلمس من ماديات، و
أنه ليس وراء هذه الدنيا شيء و نفوسنا الأمارة استراحت إلى هذه الفلسفة
لأنها تشبع لها رغائبها و تحقق لها مشتهياتها، و الحيوان في داخلنا
اختارها لأنها تشبع غرائزه
و تلك النفس هي الفتنة و الحجاب و هي التي أفرزت هذه الحضارة المادية و روجتها
ألم يسأل داوود ربه: يارب كيف أصل إليك
فقال له ربه.. اترك نفسك و تعال.. أن يترك هذه النفس لأنها العقبة
..(( فلا اقتحم العقبة. و ما أدراك ما العقبة. فك رقبة))
(11 – 13 البلد)
لا انفكاك من هذه العقبة إلا بالانفكاك من طمعك.. فتفك الرقبة و تطعم المسكين و تؤثر غيرك على نفسك.
و لذلك لم يطلب الإسلام من المسلم نبذ الدنيا و إنما طلب منه قمع النفس و
كبحها و شكمها.. لأن النفس هي الأصل.. و الدنيا مجرد أداة لتلك النفس
لتختال و تزهو و تتلذذ و تستمتع
إن النفس هي الموضوع و هي ميدان
المعركة و محل الابتلاء، و الدنيا ورقة امتحانها، و مطلوب الدين هو
الإرتقاء بهذه النفس و الارتفاع بها من شهوات البطن و الفرج و من شهوات
الجمع و الاكتناز، و من حمى الاستعراض و الكبر و التفاخر ليكون لها معشوق
أرقى هو القيم و الكمالات، و معبود واحد هو جامع هذه الكمالات كلها..و
إنما تدور المعركة في داخل النفس و في شارع الدنيا حيث يتفاضل الناس
بمواقفهم من الغوايات و المغريات و ما تعرض عليهم شياطينهم من خواطر السوء
و من فرص اللذة كل لحظة. و لم يطلب الإسلام من المسلم أن ينبذ الدنيا، بل
طلب منه أن يخوضها مسلحا بهذه المعرفة، فالدنيا هي مزرعته و هي مجلى
أفعاله و صحيفة أعماله
و قدم له فلسفة أخرى في مواجهة الفلسفة
المادية.. قدم له فلسفة استمرار و بقاء فهو لن يموت و يمضي إلى عدم.. بل
إلى حياة أخرى سوف تتعدد فصولا و تمضي به كدحا و جهادا حتى يلقى ربه: ((
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)) (6 – الانشقاق) الحضارة
المادية لم تقدم للإنسان إلا الموت و حياة تمضي سدا و تنتهي عبثا.. أما
الإسلام فقدم للإنسان الخلود و حياة تمضي لحكمة و تنتقل من طور إلى طور
وفقا لنواميس ثابتة من العدل الإلهي، حيث لا يذهب أي عمل سدى و لو كان
مثقال ذرة من خير أو شر.. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال
ذرة شرا يره.
و اليوم تصل الحضارة المادية إلى ذروة من القوة و
العلم و تكتمل لها أدوات الفعل و التأثير من إذاعة و تليفزيون و سينما و
مسرح و كتب و مجلات، و هي سواء كانت أمريكية أو سوفييتية، فهي لا تفتأ
تغتال العقل و الروح و تتحالف على الإنسان بخيلها و رجلها، و لكنها برغم
كل شيء ضعيفة متهافتة واهية لأنها تغتال نفسها ضمن ما تغتال و تأكل
كيانها، وسوف تقتتل مع بعضها البعض و تتحارب بالمخلب و الناب و بالقنابل
الذرية و القذائف النووية فالطمع و الجشع حياتها و موتها
و على
رقعة صغيرة من الأرض يقف الإسلام كمنارة في بحر لجي مظلم متلاطم الموج يعج
بالبوارج و الغواصات و حاملات الصواريخ و حاملات الرءوس النووية
و
ما أكثر المسلمين ممن هم في البطاقة مسلمون، و لكنهم في الحقيقة ماديون
اغتالتهم الحضارة المادية بأفكارها و سكنتهم حتى الأحشاء و النخاع، فهم
يقتل بعضهم البعض و يعيشون لليوم و اللحظة و يجمعون و يكنزون و يتفاخرون و
لا يرون من الغد أبعد من لذة ساعة، و يتكلمون بلغة سوفييتية أو لغة
أمريكية و لا يعرفون لهم هوية.. و قد نجد من يصلي منهم إلى القبلة خمس
مرات في اليوم و لكن حقيقة قبلته هي فاترينة البضائع الاستهلاكية
و
لا يبقى بعد ذلك إلا قليل أو أقل القليل ممن عرف ربه. و لو بقي مؤمن واحد
مرابط على الحق في الأربعة آلاف مليون فهو وحده أمة ترجحهم جميعا عند الله
يوم تنكشف الحقائق و ينهدم مسرح العرائس و يتمزق ديكور الخيش و الخرق
الملونة، و تنهار علب الكرتون التي ظنناها ناطحات سحاب و تنتهي الدنيا
و حينئذ و عندما تهتك الأستار و تقام الموازين، سوف نعرف ما الدنيا و ماذا تساوي.. و ماذا يساوي كل الزمن حينما نضع أقدامنا في الأبد
و
حينئذ سوف نتذكر الدنيا كما نتذكر رسما كروكيا، أو مسرح خيال الظل، أو
نموذج مثال مصنوع من الصلصال لتقريب معنى بعيد بعيد و مجرد.. و سوف نعلم
أنها ما كانت سوى النقطة التي فيها كل أملاح البحر المحيط، و لكنها لم تكن
أبدا البحر المحيط