دأب الناس على إحياء أيام من دهرهم ترمز إلى ما هم عليه في حياتهم من أحوال. ومما اعتادوه تخصيص العمل بيوم احتفال يتظاهرون فيه. والأمم الإسلامية بحكم الاحتكاك صارت هي الأخرى تحتفل كغيرها بيوم العمل، فما هي حقيقة العمل في دين الإسلام ؟ يعرف العمل لغة بأنه الفعل، وقد تضيق دلالته فيطلق على المهن التي يمتهنها الناس، وقد تتسع فتطلق على أعمال السلطان إذ يقال: ولي فلان أعمال كذا، كما يسمى مستخرج الزكاة وجامعها عاملا. والعمل في القرآن الكريم كثير الذكر ، وهو الفعل المرتبط بالإنسان المخلوق المستخلف في الأرض . وهو الذي يمثل العلاقة بين الخالق والمخلوق حيث كان أول أمر للمخلوق المستخلف هو الفعل أو عدمه : [ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ] إن فعل السكن وفعل الأكل أول عمل قام بهما الإنسان. والإسلام يميز العمل بصفتين اثنتين صفة الصلاح وصفة الإيمان إذ يقول الله تعالى : [ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ] ففي هذه الآية الكريمة يسوي الله عز وجل بين الذكورة والأنوثة في العمل كما كان الأمر بالفعل موجها للذكر والأنثى على حد سواء [ اسكن أنت وزوجك وكلا ] [ ولا تقربا هذه الشجرة ] وهذا يدل على أن العمل ليس حكرا على جنس دون آخر . والمهم هو أن الله عز وجل اشترط الصلاح في العمل ، وهو كل عمل تترتب عنه مصلحة ، كما اشترط فيه الإيمان الذي ورد في الآية في شكل جملة حالية : [ وهو مؤمن ] أي و الحالة أنه مؤمن، وهذا يعني أن شرط الصلاح من تقدير الله عز وجل العالم بالمصالح والمفاسد لهذا اقتضى الأمر الإيمان لأنه لا يمكن بدونه التمييز بين الصلاح والفساد ، فالإيمان هو المرجعية والمصداقية ، فكل عمل لا يؤطره إيمان لا مصداقية له ، وهو ما حذر منه القرآن الكريم في قوله تعالى : [ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم ] أو في قوله تعالى :[ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا] فكل عمل لا ينطلق من قاعدة الإيمان بالله تعالى له قيمة الهباء المنثور عند الله عز وجل. فإذا ما أنجز شخصان عملا من نفس الجنس وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا كان عمل المؤمن صالحا بينما عمل الكافر كان عمل الكافر طالحا لأن المؤمن يعمل عمله مع وجود قناعة بأنه يطيع ربه في هذا العمل ، بينما يعمل الكافر عمله مع وجود قناعة بأنه يطيع هواه. وقد جعل الإسلام للعمل معايير بها يقاس ، ويفهم ذلك من حديث نبوي شريف جاء في سياق المحاسبة والمساءلة وهو قوله صلى الله عليه وسلم : [ لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه ] فالمعيار الأول هو معيار الزمن وهو ما سماه الحديث العمر، فالعمل يقاس بالمدة الزمنية التي أنجز فيها ، وقد دأب الناس على قياس أعمالهم بالزمن ، فإذا كانت قيمة العمل أقل من قيمة الزمن الذي أنجز فيه هذا العمل كانت المحاسبة لأنه وقت هدر في الزمن وهو شيء ثمين جدا. والمعيار الثاني هو العلم ، فالعمل يقاس بالعلم ، والعمل الذي لا يؤطره علم معرض للخطأ بالضرورة ، وقد ربط الحديث بين العلم والفعل أي العمل ، وقد دأب الناس على طلب العلم والخبرة إذا ما أرادوا إنجاز أعمالهم إذ لا تسند هذه الأعمال لمن لا خبرة لهم. والمعيار الثالث هو الكسب ، فالعمل يقاس بالنتائج أي الكسب ، وقد دأب الناس على قياس أعمالهم بالكسب ، فكل عمل لا يجنى منه كسب يكون مجرد عبث ، وإذا كان الكسب دون عمل فهو سرقة وغصب يحاسب عليه الإنسان ، وإذا أنفق الكسب المحصل عليه بعمل في غير وجهه المشروع كانت المحاسبة أيضا كما جاء في الحديث. والمعيار الرابع هو الجهد، فالعمل يقاس بالجهد، وقد دأب الناس على قياس أعمالهم بالجهد المبذول، فإذا كانت قيمة الجهد المبذول أكثر من قيمة العمل المنجز كانت المحاسبة لأن إبلاء الجسم بالجهد دون طائل هو هدر لهذا الجسم الثمين أيضا. فمن خلال هذه المعايير يتم تقويم الأعمال بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، وهي أعمال لا بد لها من شرطي الصلاح والإيمان. و المسلمون لا يأخذون بهذه المعايير في محاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبوا لهذا تعرف حياتهم أكبر التعثرات بسبب هدر الزمن والمال و الجهد والعلم. والغريب أن نجد بعضهم ينشد الإصلاح في بعض الميادين دون استحضار قاعدة المحاسبة حيث يقضي المسئول مثلا زمنا معتبرا في مهمته دون طائل ، أويتلف مالا كثيرا فيما لا طائل وراءه أو في عبث ولا يحاسب البتة. وقد يتبوأ المنصب بلا علم به دون الذي له به علم . ومن المثير للانتباه أن الجزاء المخصص لهذه الأعمال هو جزاء يعتمد قاعدة مقابلة الحسن بالأحسن لقوله تعالى : [ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ] علما بأن قانون العقاب يعتمد قاعدة مقابلة السوء بالسوء وليس السوء بالأسوأ لقوله تعالى: [ من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ]. ولو استحضرنا شدة عذاب الآخرة لعرفنا حجم وخطورة الأخطاء المرتكبة بموجب قاعدة مقابلة السوء بالسوء. إن الإسلام يختلف عن غيره في نظرته للعمل، فهو ليس مجرد فعل بل هو فعل لتحقيق المصلحة التي يحددها الله عز وجل لعباده لعلمه بها، وكل فعل تترتب عنه مفاسد مما نهى الله عنه لا يعتبر عملا.