ردّ الحديث من جهة المتن، دراسة في مناهج المحدِّثين والأصوليين.
تقديم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
(وبعد)
عرَفتُ الأخ الحبيب، والشاب النابه معتزًّا الخطيب قبل أن أراه، وذلك حين
شارك بالكتابة حول انتقاداتي لأفكار الشهيد سيد قطب، في مذكِّراتي (ابن
القرية والكتاب)، وبخاصة ما كان حول تكفير المجتمع، وقد أعجبتُ بتعليقه،
وأثنيتُ عليه، وعلى ما تضمَّنه من علم ووعي، دون أن أعرف ما هو؟ ومن هو؟
وجاءني بعدها مع الأستاذ توفيق غانم المدير العام لموقع (إسلام أون لاين.
نت) لأتعرَّف عليه، فإذا هو شابٌّ حديث السن، لم أكن أتوقَّعه في مثل
سنِّه، فدلَّ على نضجه المبكِّر، وأنه قارئ يُحسن القراءة، ويستفيد مما
يقرأ ثم ازددتُ تعرُّفا عليه في مناسبات شتَّى.
ولقد زاد إعجابي بمعتزِّ الخطيب حين عرَفتُ أن تخصُّصه في الحديث وعلومه.
والسمت العام للمشتغلين بالحديث هو (النزعة الظاهرية) والميل إلي الحرفية
في فَهم النصوص، وعدم التركيز على المقاصد والكليَّات، على حين يتمتَّع
معتزُّ بعقلانية مستنيرة، متنوعة الثقافة، قادرة على النقد، مستعدَّة
للتساؤل عن كلِّ شيء، حتى ليكاد يعدّه مَن لا يعرفه في الليبراليين أو
العلمانيين. ولكن إذا سبرتَ غوره وجدتَه من الملتزمين بالإسلام.
والواقع أن معتزًّا - إن كان لا بدَّ من تصنيفه - هو أقرب إلى (مدرسة
الرأي) منه إلى (مدرسة الحديث والأثر)، وقد كانت المدرستان متمايزتين،
وخصوصًا في أول الأمر، مما جعل كثيرًا من الأثريين يهاجمون فقهاء العراق،
وخصوصًا أبا حنيفة الذين شنُّوا عليه غارة شعواء، حتى كادوا يُخرجونه من
الإسلام.
ومَن قرأ كتابًا مثل كتاب (السُّنَّة) لعبد الله ابن الإمام أحمد، وما جمع
فيه من طعون وتجريح لأبي حنيفة، ترتعد منها الفرائص. وما نقله بعده الإمام
أبو بكر الخطيب البغدادي في موسوعته التاريخية (تاريخ بغداد) وما أورده في
ترجمة أبي حنيفة من أقاويل جعلت علاَّمة الأتراك وكيل المشيخة الإسلامية
الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله، ينتهض ليردَّ على الخطيب برسالته
الشهيرة (تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب)! وهو
ما جعل أحد علماء الحديث يردُّ على الكوثري بكتاب كبير، وهو العلاَّمة
الشيخ عبد الرحمن المُعَلِّمي اليماني، وقد سمَّى كتابه (التنكيل لما ساقة
الكوثري من الأباطيل).
وأعتقد أن كلاً من الكتابين قد تجاوز أدب الحوار، ودخلت في المعركة عناصر
لم تكن ضرورية، ذهبت بكلِّ من الطرفين بعيدًا. وأشدُّ هذه العناصر هو:
(العصبية المذهبية)، التي قال عنها العلاَّمة مصطفى الزرقا: إنها سجن ضيق
مظلم في جنة الشريعة الفيحاء!
والحقيقة أن المدرستين (الرأي والحديث) قد تقاربتا إلي حدٍّ كبير، بعد أن
لقي الصاحبان[i] الإمامان أبو يوسف ومحمد الإمام مالكًا، وروى محمد الموطأ
عنه، وبعد أن اقترب مالك من أصحاب الرأي، بقوله بالمصالح المرسلة، وعمل أهل
المدينة، وتخصيصه النصوص بمخصِّصات شتَّى! حتى قيل: لولا مالك لضاقت
المسالك، وحتى قال الإمام محمد أبو زهرة في كتابه عن (مالك) إنه من أئمة
الرأي[ii]. وهو محقٌّ في ذلك. ولذا أنصف مَن اعتبره من (فقهاء أهل الحديث)
بل هو إمامهم.
وأعتقد أن هذه المدرسة - مدرسة فقهاء الحديث التي يمثِّلها مثل: عز الدين
ابن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وابن تيمية وابن القيم، وابن كثير،
وأمثالهم - هي المدرسة التي تمثِّل (الوسطية الإسلامية)، التي تفهم النصوص
الجزئية في ضوء المقاصد الكلية، ولا تقيم معركة بين السنة والقرآن، ولا بين
صحيح النقل وصريح العقل، ولا بين الحديث والفقه وأصوله. بل تقيم منهجًا
متكاملًا ومتوازنًا يجمع أفضل ما عند المدرستين. وهذا ما انتهجه شيخ
الإسلام ابن تيمية ومدرسته، وقد دافع عن الأئمة المتبوعين المقبولين عند
جمهور الأمة، وفي مقدِّمتهم أبو حنيفة، وذلك في كتابه الشهير (رفع الملام
عن الأئمة الأعلام).
ولكن كثيرًا ممَّن يدَّعي الانتماء إلي مدرسة ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن
القيم، لا ينهجون هذا النهج، ولا يحملون هذه الرُّوح. ولا غرو أن أطلقتُ
عليهم في بعض الأحيان: مصطلح (الظاهرية الجدد). أعني أنهم يتمسَّكون بجمود
الظاهرية، ورفضهم القياس، وعدم تعليلهم للأحكام، وعدم اعتبارهم للمصالح أو
المقاصد، واعتقادهم أن الشريعة تفرِّق بين المتساوين، وتسوِّي بين
المختلفين. هذا مع ما تتميَّز به الظاهرية من التبحُّر في العلم،
والموسوعية في الحديث والآثار.
وهم الذين ردَّ عليهم شيخنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في كتابه الذي
أحدث ضجَّة فكرية كبيرة عند ظهوره، وهو الذي سمَّاه (السنة بين أهل الفقه
وأهل الحديث)، والذي ردَّ فيه قليلاً من الأحاديث ثبتت في الصحيحين أو
أحدهما، مثل حديث: "لولا بنو إسرائيل لم يَخْنَِز اللحم، ولولا حواء لم
تخُن أنثى زوجها الدهر"[iii]، ومن حقِّه أن يردَّ هذا الحديث بشقَّيه،
فاللحم يخنز - أي يتغيَّر وينتن - وَفق السنن الإلهية قبل بني إسرائيل
وبعدهم، وحواء لم تخُن زوجها، كما نستبين ذلك من القرآن.
وقد غضب على الغزالي كثيرون، صوَّبوا إليه سهامهم، واتَّهموه بمعاداة
السنة. وهي تهمة باطلة يقينًا. فقد ردَّ الرجل على أعداء السنة بمنطقه
القوي، وقلمه البليغ في أكثر من كتاب له.
ولكن المشكلة تكمن في عملية مشروعية (نقد متون الأحاديث)، وَفق الضوابط
والقواعد، ولا سيَّما الأحاديث التي لم تصل إلى درجة القطع. أعني أحاديث
الآحاد.
وقد شاركتُ الشيخ الغزالي في بعض انتقاداته، وانتقدتُ المحدِّث الكبير
الشيخ ناصر الدين الألباني في بعض تصحيحاته - أو تضعيفاته - للحديث، ولا
سيَّما التصحيح والتحسين.
فهو يصحِّح حديث: "الوائدة والموؤدة في النار"[iv]، الذي رواه أبو داود.
وهو معارض لصريح القرآن الذي قال بكلِّ صراحة: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ
سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8، 9].
وهو يصحِّح عدَّة أحاديث تقول: "ألبان البقر دواء، ولحومها داء"[v]. فكيف
تكون داءً، وقد أباحها الله في كتابه باعتبارها من بهيمة الأنعام، وشرع
ذبحها في الأضاحي والهَدْي في الحجِّ والعمرة؟ وهي مصدر عالمي للغذاء
(البروتيني)؟
ولقد نبَّهتُ من قديم في عدد من كتبي إلى ضرورة (الوصل بين الفقه والحديث)،
إذا أردنا أن نحيي قويما. اجتهادا فقد انقطعت الصلة بين العِلْمَين في
عصور التراجع الحضاري والثقافي لأمَّتنا، وأصبح الذين يشتغلون بالحديث وحده
شبه أميين في الفقه وأصوله، كما أصبح الذين يشتغلون بالفقه وحده شبه أميين
في علوم الحديث ورجاله، وكثيرًا ما يستدلُّون بالحديث الضعيف والمنكر، بل
الموضوع، وما لا أصل له. حتى اشتهر قول بعضهم: هذا من حديث الفقهاء!
وأحيانًا يردُّون الحديث الصحيح. وهذا غاية الخلل والاضطراب: أن نحتجَّ
بالضعيف، بل الموضوع، وأن نردَّ الصحيح المتَّفق عليه. والشكوى من انفصال
الفقه عن الحديث قديمة، والشعور بالحاجة إلى الجمع بينهما أصيل في تراثنا.
ومن هنا وجدنا من علماء السلف مَن ينكر انفصال العِلْمَين، ويرونه من (الفُصام النكد) كما عبَّر سيد قطب رحمه الله.
قال بعضهم: كان سفيان الثوري، وابن عيينة، وعبد الله بن سنان يقولون: لو
كان أحدنا قاضيًا لضربنا بالجريد فقيها لا يتعلَّم الحديث، ومحدِّثًا لا
يتعلَّم الفقه[vi].
__________________