في
ساعة متأخرة من الليل، رن الهاتف رنينا متواصلا، في منزل ضابط المخابرات الرائد "دحام"،
الذي كان يدخل بيته في تلك اللحظة، بعد سهرة صاخبة في مقر عمله، يعرف من كان قدره
أن يزوره من غير عناصر المخابرات ما تعني كلمة "سهرة صاخبة"، وعندما رفع سماعة
الهاتف جاءه صوت نسائي متهدج تخنقه العبرات، يستنجد به أدركنا يا أبا "دانة"!.
وبعد
أن التقط أنفاسه أدرك أن الصوت المستغيث كان صوت زوجة زميله في قسم التحقيق في
المخابرات العسكرية، الرائد "رعد". رمى سماعة الهاتف كيفما اتفق وخرج مسرعا بسيارته
المرسيدس "280 قرش ونص". دخل دحام إلى منزل صديقه رعد بعد أن فتحت له زوجته الباب
ليفاجأ بمنظر يأخذ بمجامع النفس من شدة الهول، لقد كان رعد منفوش الشعر جاحظ
العينين محملقا في سقف غرفة نومه، لا يكاد يحس بمن حوله. اقترب منه دون أن يسأل
زوجته عن السبب لأن طبيعة الحال تغني عن السؤال. وعندما حاول أن يعرف ما حل بصديقه
وجده لا يكاد يستطيع النطق، وإنما هي أنفاس متحشرجة تتردد في صدره. وما هي إلا
دقائق قليلة، قضاها "دحام" بالاتصال بالهاتف، حتى كانت غرفة "رعد" تعج بأطباء من
اختصاصات مختلفة. عندها غادر الرائد دحام منزل صديقه رعد بعد أن اطمأن إلى أنه بين
أيد لن تقصر معه في العلاج.
في
اليوم التالي، وبعد أن أنهى دوامه الصباحي، توجه دحام إلى منزل صديقه رعد، حيث وجده
في حال - وإن لم يكن على ما يرام تماما - تمكنه من الإفضاء إليه بالأسباب التي عصفت
به، من دون سابق إنذار.
تمالك
رعد نفسه بعض الشيء، وقال يحدث صديقه دحام:
على
خلاف العادة وصلت إلى بيتي حوالي الساعة الواحدة صباحا، وأنا أشعر بالضيق بعد أن
عجزت عن إرغام أحد المشبوهين في قضية سياسية أمنية على الإدلاء بما عنده من
المعلومات، رغم كل وسائل الضغط النفسي والجسدي التي أخضعته لها. ولشدة غيظي لم
أستطع تناول طعام العشاء ولا حتى شرب الشاي، ودخلت إلى سريري لعل النوم يذهب
ببعض
ما حل بي من نار الغيظ . وما هي إلا دقائق حتى دخلت في كابوس، لا أدري حقيقة كان أم
في المنام؟
جاءني
مخلوقان كريها المنظر لا أستطيع أن أصف ملامحهما، وإن كان يخيل إلي أن الواحد منهما
كأنما قطع من جبل عظيم لضخامة جسده. ودون أن يدعا لي فرصة لأتبين فيها ما يريدان
مني، كنت معلقا بينهما كريشة في مهب الريح. وما هي إلا ثوان معدودة حتى كنت على
شفير واد سحيق، يتصاعد منه دخان ولهيب، وعندما أرادا إلقائي في قعر الوادي جاءهم
صوت، لا أستطيع أن أصفه، يقول: لا، حتى نجري له حسابا عادلا.
وما
هو إلا كلمح البصر، حتى بدأت تتساقط أمامي ملفات كالملفات التي أدون بها "الحالات"
الأمنية التي مرت علي. لكن الذي أفزعني أكثر، أن أعداد هذه الملفات كان أضعاف
أََضعاف "الحالات"التي حققت بها. وابتدأ التحقيق معي، حالة بعد حالة، وملفا بعد
آخر. وكلما انتهيا من نظر حالة، كان الصوت يصدر حكمه، من مكان لا أدري أين هو،
فيقول: أدخلوه في وادي "لظى" لمدة مليون عام أو عشرة ملايين عام أو مليار عام عن
هذه الحالة فقط. وبمجرد أن يخطر ببالي، أن هذه الأحكام قاسية جدا، يتم تمثيل الحالة
أمامي. يؤتى بالشخص الذي كنت أتابع ملفه في غرفة التعذيب، فيمثل أمامي هو وأولاده
وزوجته وأمه وأبوه.
واحدة
من هذه الحالات واجهتني في بدء التحاقي بقسم التحقيق في فرع المخابرات، عندما كنت
ملازما، أي منذ عشر سنوات. وكانت هذه الحالة لمدرس في مدرسة ثانوية، جيء به متهما،
بعد أن سُمع وهو يذكر بالخير زميلا له اعتقل منذ أكثر من خمس سنوات، وقد اعتبر ذلك
منه موالاة لذلك المعتقل، وأنه مثله يعادي النظام والشعب وكل المكتسبات الثورية.
وكان بدء عرض شريط هذه الحالة، ظهور خيال أبيه أمامي، وهو يطوف على فروع المخابرات،
فرعا فرعا، يسأل عن ابنه، وهم يصدونه بجفاء، وربما أسمعوه كلمات نابية، وإذا أظهروا
له بعض التهذيب، قالوا له ليس لدينا أحد بهذا الاسم، في الوقت الذي كان فيه ابنه
داخل المبنى، يخضع للتعذيب تحت إشرافي، يصرخ من شدة الضرب على رجليه وهو محشور في
دولاب "جنط 14"، أو يتلوى من الألم، وهو يستجير ولا من مجير، وهو يصعق بالتيار
الكهربائي. ومر شريط طويل أمامي لأرى في آخره هذا الوالد وقد سقط ميتا في زمهرير
الشتاء أمام مبنى فرع المخابرات، بعد أن أصابته في عقله لوثة
جنون،
وهو يظن أن ابنه سيخرج إليه بعد طول انتظار. وجاء الصوت يقول سجلوا عليه مئتي مليون
عام في نار جهنم جزاء ما اقترفت يداه في حق هذا الشيخ الفاني. وجاءت بعده صورة أمه،
التي أخرسها الحزن على فقد وحيدها لتموت بعد شهرين من اعتقاله. وصدر الحكم علي
بمئتي مليون سنة في النار، عقابا لي على تسببي بعذاب تلك الأم التي ماتت، حزنا على
انقطاع أخبار وحيدها عنها، بعد أن اعتبرته في حكم المقتول، لما كان يشاع عن سجون
المخابرات "بأن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود". ثم ظهرت بعد ذلك صورة
الزوجة وهي بثياب مرقعة تخدم في البيوت، بعد أن كانت سيدة تستقبل الخادمات في
بيتها، لتعيل طفلها وطفلتها، بعد أن قطع عنها راتب زوجها. وصدر الحكم علي بمائة
مليون سنة، لأنني تسببت بعذاب الزوجة وطفليها بعد اعتقال زوجها. وقد ظننت أن هذا
الحكم هو نهاية المطاف عن هذه "الحالة"، حتى ظهر أمامي صاحب الحالة نفسه الأستاذ
أحمد الذي مات أثناء التعذيب، بعد أن قام زبانية التعذيب بإدخال خرطوم موصول
بمنفاخ، في فتحة خروج الفضلات، انتفخ بعدها بطنه وتمزقت أمعاؤه وسجلت وفاته ضد
مجهول. وصدر الحكم علي بما يساوي مجموع الأحكام السابقة، وجاء في حيثيات الحكم
الأخير أني عرّضت هذا المعتقل لفتنة التعذيب "والفتنة أشد من القتل".
بعد
ذلك بدأت تعرض علي الحالات حالة بعد أخرى. ومما أثار فزعي أكثر، أن الحالات التي
أشرف عليها ضباط وضباط صف، كانوا تحت إمرتي، حوسبت عليها، وقيل لي في حيثيات الحكم
إن أولئك الجلادين كانوا يضربون الناس "بسوطي". وهذا يفسر كثرة الملفات التي حوسبت
عنها. ولم ينقذني من هذا الكابوس المخيف إلا صوت زوجتي تهب مذعورة توقظني من نومي،
وهي ترى ما كان يظهر مني أثناء نومي من هيجان وأصوات غير مفهومة، أو هكذا قالت لي
زوجتي. ولم أعد إلى نفسي إلا بعد الأدوية التي أعطيتها وأنت تعرف باقي الحديث أكثر
مني.
رفع
الرائد "رعد" رأسه ليرى صديقه "دحام" يبتسم ابتسامة صفراء. فقال له رعد وهل حديثي
مدعاة للابتسام؟ فقال له ليس لهذا الحديث ابتسمت، ولكني تذكرت نفسي وكيف سيكون عليه
أمري، وتذكرت "معلمنا" العميد .. "أبو يعرب" مدير فرع المخابرات العسكرية، وعشرات
آلاف الملفات التي سيسأل عنها، وأحكام بمليارات السنوات وربما بسنين ضوئية، إن كان
منامك هذا سيصدق علينا جميعا، أو حتى اللواء "أبو يشجب" مدير إدارة المخابرات
العسكرية، أو حتى !....