علم أبنية اللغة
اكتشاف... قاعدة حفظ الانتماء

يُعنى علم أبنية اللغة ... بالقواعد الأولّية لبناء الكلام .,.وإنّ من أهمّ هذه القواعد ... قاعدة حفظ الأنتماء.

أولا"_المقصود بالانتماء
تمتاز كلمات اللغة العربية بأن لها ... نسبا" ... ويتمثّل هذا النسب في انتمائها إلى مادّة اشتقاق , وإلى ميزان صرفي .

وقد
دلّ الاستقراء على أنّ أصحاب اللغة – حفاظا"منهم على ذلك النسب من
الهُجنة – قد ألزموا أنفسهم بأحكام تحفظ للكلمات انتماءها إلى
المادّة والميزان , وقد سمّينا مجمل هذه الأحكام

(( قاعدة حفظ الأنتماء ))
ثانيا"– الشكل الأوّلي للكلمة والكلمة والأصوات الأّليّة

من المعلوم أن الكلمة نوعان...جامد ومشتقّ ... وأنّ المشتق هو الذي ينتمي إلى مادةٍ وميزان .

=
فنحو كلمة ... رَجَبْ... تنتمي إلى المادة ( ر ج ب ) وإلى
الميزان... فَعَلْ ... ويمكن أن يُرمز إلى هذه الكلمة كما يلي ..ر ج ب
( فَعَل ) وقد اصطُلح على أن يُسمى...الشكلَ الأوّلي...الشكل
الذي تكون عليه الكلمة , بعد وضع كلٍّ من أحرف مادّتها في موضعه من
الميزان , فالشكل الأولي لكلمة ... ر ج ب(فَعَلْ) ... هو ... رَجَبْ
...ويُلاحظ , هنا , أن ...راء ...المادّة قد وضعت في موضع...الفاء
...من الميزان , و... الجيم في موضع... العينّ... والباء... في موضع
...اللام ... وقد اصطُلح على أن تُسمّى الأصوات التي يتألف منها الشكل
الأوّليّ... الأصوات الأوّلية .

= فالأصوات الأوّليّة للكلمة التي شكلها الأوّليّ ... رَجَبْ ...

هي ... الراء وفتحتحها...والجيم وفتحتحها ... والباء وعلامة الآخر... وهي ... ستة أصوات .

ثالثا"- الأصوات المادّيّة والأصوات الوزنّية

من الواضح أنّ الأصوات الأوليّة مؤلّفة من ...أصوات المادّة ... وأصوات الميزان .

= فالأصوات الأولية التي تتألّف منها كلمة ...رَ جَ بْ منها ما هو ... مادي ... ومنها ما هو... وزنّي :

فالأصوات المادّيّة هي...الراء والجيم والباء ...والأصوات الوزنيّة هي ... فتحة الراء ... وفتحة الجيم ...وعلامة الآخر .

رابعا" – النُّمَيَّات

بُقصد ... بالنمّيات... كلّ ما كان الأصل فيه الثبات من الأصوات الأوليّة .

والنمّيات نوعان : ماذّية ووزنيّة :دّ

1 – والنمّيات المادية... هي الأصوات الماديّة وما قد يحلّ محلّها.

2 – والنمّيات الوزنيّة ... هي ما كان الأصل فيه الثبات من الأصوات الوزنية .

وقد
سميّت ...نُميّات...لأنها هي الأصوات الثابتة التي ينبغي الحفاظ
عليها , في معرض أي تغيير قد على الكلمة , سواء أكان هذا التغيير
قد يطرأ على الكلمة , سواء أكان هذا التغيير إعلالّيا" أم إعرابّيا"
أم بمناسبة ما قذ يتصل بها من ضمائر وأشباهها , وذلك حفاظا" على
انتمائها إلى المادّة والميزان .

ومن الأمثلة
على النمّيات المادّية في نحو كلمة س ع ي ( فَعَلْ ) , التي شكلها
الأولّي ...سَعَيْ ... الذي ينقلب تخلّصا" من الثقل إلى ...سعى ...كلّ
من...السين والعين والمدّة التي حلّت محل الياء في ...سَعَىْ .

ومن الأمثلة على النميّات الوزنيّة ... فتحة السين وفتحة العَيْن ...في كلمة ...سَعَيْ ... أمّا علامة الآخر فليست من النمّيات الوزنية , لأن الأصل فيها عدم الثبات , وإن كانت صوتا" من الأصوات الوزنيّة .

هذا , ومن الأصوات التي يكون الأصل فيها عدم الثبات , مثل علامة الآخر :

1"- أحرف المضارعة...
الألف والنون والتاء والياء... التي تأتي في أوائل أفعال المضارعة ,
مثل ... أكتبْ – نكتبْ – تكتبْ-يكتبْ ... إذ أن كلا" من هذه الأحرف
عرضة للتغيير تبعا" لكون فاعل الفعل هو المتكلم المفرد أو المتكلمون
الجماعة أو المخاطب ...المفرد أو المثنّى أو الجماعة من الذكور أو
الإناث أو الغائب ...المفرد أو المثنى أو الجماعة من الذكور أو
الإناث ,

2"- المدّة الوزنية الشاردة , أي التي لاتسبقها حركة من جنسها ,

ويمكن
تلخيص ما سبق بقولنا ...النمّيات الوزنيّة ...هي الأصوات الوزنيّة
عدا علامة الآخر , وأحرف المضارعة ,والصوت الوزنيّ الشارد .

خامسا" – قاعدة حفظ الانتماء

يتبين من الاستقراء أن المبادئ التي التزمها أصحاب اللغة , حفاظا" على انتماء كلماتهم إلى المادة والميزان , هي :

1 – إيثار بقاء النمّيات , أو ما يحلّ محلّها , على زوالها .

2 – منع ظهور معتلّ ضميّ , في موقع النمّية المادّية اليائية .

وقد أطلقنا على هذه المبادئ تسمية : (( قاعدة حفظ الانتماء )) .

سادسا"- كيفّية تطبيق قاعدة حفظ النتماء

نورد فيما يلي , بعض الأمثلة التي تتبيّن من خلالها كيفية تطبيق قاعدة حفظ الانتماء :

المثال الأولّ ...
في معرض بناء الفعل الماضي المجرّد من مادّة ... الباء والياء
والعين... وهو ... بَيَعْ ... يُلاحظ أنّ هذا الشكل الأوّليّ للكلمة ,
يثقل لفظه على اللسان , وتخلصا من هذا الثقل قلب أصحاب اللغة هذا
الشكل الأوّليّ إلى ...بَاَعْ ...وقد وقع اختيارهم على مدّة الفتحة ,
لتحلّ مكان الياء المفتوحة , لأن من شأن هذا الاختيار الحفاظ على
فتحة الباء , وهيي نمّية وزنيّة ,وعلى جنس النمّية الوزنيّة الثانية ,
وهي فتحة الياء .

أمّا إحلال مدّة الكسرة
التي هي من جنس النميّة الماديّة الثانية , وهي الياء , أي بجعل
الكلمة ... بِيعْ ...فمن شأنه أن يذهب بالنميتيّن الوزنيتيّن الأولى
والثانية , وهما فتحة الباء , وفتحة الياء , وبذلك لايبقى أيّ أثر
يدلّ على ميزانها الصرفيّ... فَعّل... وفي هذا تشويه لانتماء الكلمو
إلى الميزان .

يُضاف إلى ذكل مايحدثه قلب الكلمة إلى ... بيع ... من التباسٍ بين صيغتي المعلوم والمجهول , من هذا الفعل الماضي .

وأمّا
إحلال مدّة الضمّة محلّ النميّة الماديّة الثانية , وهي الياء ,
فغير واردٍ على الإطلاق , لأن من شأن الذهاب بالنمّيتين الوزنتين
الأولى والثانية , والذهاب أيضا" بجنس النمّية المادّية الثانية , وفي
هذا ابتعاد بالكلمة عن انتمائها المادّيّ والوزنيّ في آن معا" ,
الأمر الذي يعدّ مخالفا" مخالفة" فظّة لأحكام قاعدة حفظه الانتماء ,
التي تقضي بإيثار بقاء النميّات على زوالها .

المثال
الثاني... في معرض بناء المصدر من مادّة ط و ي وميزان... فَعْلْ
...يُلاحظ أن الشكل الأوّليّ لهذا المصدر هو...طَوْيْ... وأن لفظه
ثقيل على اللسان , لذلك عمد أصحاب اللغة إلى إحلال ياء مكان الواو
لتصبح الكلمة بريئة من الثقل ...طَيّْ ... ولو كانو قد اختاروا قلب
ياء طَوْيْ إلى واو لوقعوا في مخالفةٍ لأحكام قاعدة حفظ الأنتماء
التي تمنع ظهور معتلٍّ ضمّيّ في موقع النمّيّة المادّيّة اليائية .

هذان مثالان يبّينان كيفّية تطبيق هذه القاعدة , في معرض بناء الجملة :

المثال الأول ... عندما أراد أصحاب اللغة أن يُدخلوا...يقضي... لاحظوا أنّ لها ثلاثة أشكال , هي :

يَقضِيَ – يَقضِ – يقضي

والتزاما"
منهم بقاعدة حفظ الأنتماء التي تُوثر بقاء النمّيات على زوالها ,
أدخلوا الكلمة بكامل نمّياتها , أي بالشكل ...يقضيَ... ذلك أن الشكل
... يقضَ... قد زالت منه نمّية مادّية ,وهي ياء الآخر , وأن الشكل
...يقضي ... قد حلّ فيه صوت هو من جنس النمّية المادّيّة , ولكنه ليس
النمّية المادّية ذاتها , الأمر الذي دعاهم إلى إدخال كلمة
...يقضي... إلى الجملة بأكمل أشكالها وهو ... يقضيَ .

المثال الثاني ... كذلك عندما أراد أصحاب اللغة إدخال كلمة يَسعى... إلى الجملة , لاحظوا أن لها شكلين هما :

يسعى – يسعَ

ولاحظوا
أيضا" أن... مدّة الفتحة ... في كلمة ... يَسْعًى... قد حلّت محل ياء
المادة في الشكل الأوليّ للكلمة , وهو ...يَسْعَيْ...إذ انها هي في
الأصل من مادة ( السين والعين والياء ) , وميزان ...يَفعلْ .

وإعمالا"
لأحكام قاعدة حفظ الانتماء أبقى أصحاب اللغة على المّدة الفتحّية
في كلمة ...يسعى ... عند إدخالها إلى الجملة , إذ تقضي هذه الأحكام
بإيثار بقاء ما حلّ محلّ النمّية على زواله , ولم يجدوا , من ثمّ ,
بدّاْ , من إدخال كلمة... يسعى ...إلى الجملة ...بأكمل شكليها بنية" ,
وهو ... يسعى .

هذه أربعة أمثلة تبيّن بجلاء كيفّية تطبيق قاعدة حفظ الانتماء .

وهنا
ينبغي أن ننوّه بما لّقاعدة حفظ الأنتماء هذه منن فضل في التوصّل
إلى التفسير العلمّي الصحيح لظاهرة التفسير الإعرابيّ , أو الإعرابّ .
فكما أنّ قاعدة إيثار الأخفّ هي التي عّينت الشكل الذي تدخل به
كلمة ... الرجل ...إلى الجملة حين قضت بأن تدخلها ... بأخفّ أشكالها
... وهو ... الرجلَ ... فإن قاعدة حفظ الانتماء هي التي عّينت لكلمة
...يقضي ... الشكل الذي تدخل به الجملة , حين قضت بأن تدخلها ...
بأكمل أشكالها ... وهو... يَقضِيَ .

كذلك لابّد من التنبيه إلى أن التزام نهج التدرّج المنطقيّ
في البحث كان ضروريا" للتمكّن من التوصل إلى التفسير العلمّي
الصحيح للظواهر اللغوية , فاكتشاف النظام الصوتي أوّلا" هو الذي أعان
على اكتشاف قاعدة حفظ الأنتماء , واكتشاف القاعدتين العامّتين
للإعلال والإعراب كان متعذرا" قبل معرفة النظام الصوتيّ وقاعدة حفظ
الانتماء .

أما النظام العروضي فكان ثمرة" نادرة من ثمرات اكتشاف النظام الصوتي .

ومن المسلّم به أن عدم التزام العلماء نهج التدرّج المنطقيّ
في بحوثهم , وذلك بقفزهم من فوق حاجزين منيعين , إلى محاولة تفسير
ظاهرتي الإعلال والإعراب , ويتمَثلّ هذان الحاجزان بعدم معرفتهم بوجود
النظام الصوتيّ وقاعدة حفظ الأنتماء , الامر الذي أدّى بهم إلى
اعتماد فرضياتٍ وهمّية خاطئةٍ في معرض محاولتهم التوصّل إلى تفسير
الظاهرتين المذكورتين .

وختاما" قد يكون من
المفيد الإشارة إلى أن من نتائج عدم التزام العلماء بنهج التدرج
المنطقي في البحث , كذلك من نتائج الاخطاء الجسيمة الماثلة في
الاساس النظريّ الذي بَنَوْا عليه قواعدهم , أن حُرمت الفصحى على
مدى الفّ واربعمائة سنة من عمر الامة , من تعريف ابنائها بالأنظمة
والقواعد الصحيحة للغتهم الامّ , وذلك بدليل خلوّ مراجع علوم اللغة
العربية
من ايّة صياغةٍ لأي من الأنظمة والقواعد الكبرى التالية :

1"- النظام الصوتي والقاعدة العامة التي تحميه وتمنع مخالفته .

2"- قاعدة حفظ الانتماء التي تحمي نَسَب الكلمة العربية من الهُجنه .

3"- القاعدة العامة للإعلال التي اعتبرها عالم فرنسي أكبر معجزات الفصحى .

4"- القاعدة العامة لإعراب التي أغنت علم النحو عن أربعين قاعدة .

5"-
النظام العروضيّ الجديد الذي أسفر عن حقائق عروضّية عظيمة الأثر
والأهمية وها إننا نقدم هذه الأنظمة والقواعد الأساسية لأمتنا
المسلمة ,