إنه لشيء لافت ذلك التباين الكبير بين ما نكون عليه عند الولادة , وبين ما
نكون عليه عند الموت , المواليد كلهم أطفال من درجة واحدة , حيث يمكن ان
نتوقع لكل واحد منهم أن يكون في المستقبل واحداً من العظماء و وان يكون
متخلفاً ذهنياً أو مجرماً أو منحرفاً ... لكن هذه الإمكانيات تتلاشى مع
الأيام ليصبح المجهول معلوماً , ولتتجه الأنظار والتوقعات العظيمة إلى أناس
دون آخرين , رجال ونساء يغادرون هذه الحياة وهم أعلام ,تعلقت بهم القلوب ,
ونطقت بالثناء عليهم الألسن ... وما ذلك إلا لأنهم في حياتهم لم يكونوا
أشخاصاً عاديين , وإنما كانوا دعاة أو فقهاء أو حكماء أو قادة , او باذلين
للمعروف ساعين في الخير ...إن الذي غادر هذه الحياة هو أضعف شيء فيهم , وهو
( الجسد ) أما عقولهم وأروحهم وأمجادهم ومآثرهم والسنن الحسنة التي سنوها ,
والأيادي البيضاء التي أسدوها للناس , فإنها باقية في النفوس والقلوب
ليعبر عنها أهل الوفاء بالثناء والدعاء قروناً بعد قرون , ولتتخذ منها
الأجيل نبراساً للتأسي والاقتداء .
إن تسلْ أين قبور العظما فعلى الأفواه أو في الأنفس
وإن ما ينتظرهم من كرامة الله - تعالى - في الآخرة هو أعظم بكثير مما نالوه
في هذه الدنيا الفانية , لكن ذلك يشكل عاجل البشري , ومقدم الجزاء , وقد
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أحب الله عبداً نادى
جبريل : إن الله يحب فلاناً فأحبه , فيحبه حبريل , فينادي جبريل في أهل
السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء , ثم يوضع له القبول
في الارض ) .
هذه هي القلة القليلة من الصفوة المختارة من عباد الله , أما السواد الأعظم
من الناس فإنهم - مهما عاشوا - يمرون على هذه الحياة مروراً سريعاً , وهم
ما بين شخص يترك شيئاً يندم عليه , وشخص لا يترك أي شيء ! ولا تمر سنوات
قليلة حتى ينساهم الصديق والقريب ..
ماالذي يعنيه هذا بالنسبة إلى أبنائي وبناتي ؟إنه يعني الآتي :
1- إن الذي يصنع الفرق بين الناس عند الموت ليس النسب ولا المال ولا القوة ,
لكنه الاستقامة والعلم والأثر النافع وحب الخير للناس والمساهمة في إصلاح
الأوضاع والأحوال ...
2- في إمكان كل واحد منكم أن يسير في طريق العظماء من خلال الجهد اليومي الذي يبذله في المجال الصحيح وبالطريقة الصحيحة .
3- لا يحتقر الواحد منكم نفسه , ولا يرضَ بالقليل , فالكريم الجواد الغنس
الحميد هو رب الأولين والآخرين , وقدر يمنح للمتأخر شيئاً حجبه عن المتقدم .
تذكروا دائماً ساعة الرحيل , وخططوا دائماً لأن يكون ما يقال عنكم فيها شيئاً عظيماً , ترجون ثوابه عند الله تعالى .