وبعد رحلة مُرة إلى الطائف؛ كان رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – يَعرض نفسه على القبائل، في موسم الحج، كان
يمر على الجماعات في الأسواق، ومواسم الحج، ولا يترك شريفًا معروفًا ولا
شاعرًا مشهورًا ولا حكيمًا مُطاعًا إلا عرض عليه الإسلام . وكان قد ركز
جهده في السنوات الثلاث الأخيرة قبل الهجرة على البحث عن وطن جديد يكون مقر
دولة الإسلام؛ يحتضن الدعوة والداعية؛ حتى تتم رسالة الله . وكان يقول هو
يدور على الناس ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :

« مَنْ يُئْوِينِى ؟ مَنْ يَنْصُرُنِى ؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّى، وَلَهُ الْجَنَّةُ »[1] .

***

وكانت له مقابلة تاريخية – أطنب فيها الباحثون – مع قبيلة بني شيبان، تلك
القبيلة العربية التي حالفت الفرس، على ألا يأووا مُحْدثًا.. تلك القبيلة
العربية القوية التي احتضنت ثلة من نوابغ العرب كانوا من أبنائها، أمثال :
المثنى بن حارثة الشيباني، وهانئ بن قبيصة، وكان من نسل هذه القبيلة فيما
بعد الأمام أحمد بن حنبل – إمام أهل السنة – ويزيد بن مزيد وغيرهم من
العلماء والقادة..

إذنْ نقف وقفة إجبار وإجلال عند حصافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه –
نسَّابة العرب – عندما اقترح على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعرض
الدعوة على بني شيبان.

فقال أبو بكر للنبي – صلى الله عليه وسلم –:

بأبي وأمي، هؤلاء غُرَر الناس، وفيهم (مفروق) قد غلبهم لسانًا وجمالاً “[2] .

أي : بأبي أنت وأمي يا رسول الله – صلى الله عليك – هؤلاء بنو شيبان من أكابر العرب وأحسنهم، وزعيمهم ” مفروق” يفضلهم حكمة وجمالاً.

ومن ثم توجه أبو بكر برسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى مخيم بني شيبان في عرصات الحج.

ودار هذا الحوار الماتع:

تقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟

قالوا: شيبان بن ثعلبة

فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟

فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة.

فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟

فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب،
وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله
يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى .. لعلك أخو قريش؟

فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فها هو ذا !

فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟

فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تُؤووني وتنصروني،
فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق،
والله هو الغني الحميد»

فقال مفروق، وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا .

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ
إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )
[الأنعام: 151].

فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك, وظاهروا عليك ..

ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا.

فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا, واتباعنا
دينك لمجلس جلست إلينا، لا أول له ولا آخر لذل في الرأي, وقلة نظر في
العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن
نرجع وترجع، وننظر..

ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا !

فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه
جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين
صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة !

فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ما هذان الصريان» ؟؟

قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبه غير
مغفور, وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا
نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا
قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب،
فعلنا.

فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-
قولته التي أبان فيها سمة أساسية من سمات منهج الله، وعمدة عميدة من عماد
النظام الإسلامي، أنه شاملٌ لكل مجالات الحياة، وأنه جزء واحد لا يتجزء:

«ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من
حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله
تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان
بن شريك: اللهم فلك ذاك[3].

لماذا رفض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الفرصة ؟

إنها فرصة بكل المقاييس، أن يرى المستضعفون أنصارًا لهم على أتم الاستعداد
أن يدفعوا عنهم ظلم ظالميهم من العرب، علمًا بأن المستضعفين لا يشغلهم أمر
الفرس في الوقت الراهن على الأقل ..

ألف فارس عربي من بني شيبان الأبطال في تمام التجهيز، في أتم الاستعداد لضرب قريش !

ولكن لماذا رفضت يا رسول الله ؟

لا شأن لنا الآن بفرس أو كسرى، وعدونا في وقع الأمر هو ذلك الوثني القابع
في مكة، الصاد عن سبيل المؤمنين، الذي ألهب ظهور المسلمين، وحرَّق جلود
المستضعفين في ساحات مكة ، وقتل الضعفاء أمثال سمية وياسر، وهجّر الموحدين
إلى وسط أفريقيًا .. !

ولِـمَ لا نرحل إلى بني شيبان، فنهاجر إليهم حتى إذا قويت شوكتنا على
العرب، أو كره الفرس مقامنا بين إخواننا من بني شيبان، انتقلنا إلى ركن آخر
ركين، فنجونا من سياط العرب وأعددنا العدة !!!

………….

………….

لعل هذه التساؤلات تدور بخلد القارىء !

والحق أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفض عرض بني شيبان لعدة أسباب :

1-أنه لا أنصاف حلول في الأصول، فالإسلام نظام شامل،
لا يقوم إلا شاملاً، فمن ينصره على العرب لابد أن ينصره على العجم، وإلا
فلن ينتصر أبدًا، ويصير بددًا !

2-أن الجهاد الصادق المتجرد، جزء لا يتجزء من
الإسلام، فكما لا يصح إسلام قوم تعاقدوا على صلاة الظهر دون العصر، فكذلك
لا يصح إسلام قوم تعاهدوا على الجهاد في وجه دون آخر .. فالصلاة وحدة واحدة
لا تتجزء، وكذلك الجهاد..

3- أن الحصافة السديدة وبعد النظر، يقتضيان رفض عرض
بني شيبان، فلقد قالوا بصريح العبارة أنهم على استعداد أن يقفوا في وجه
العرب لحمايتهم بيد أنهم لا يستطعيون ذلك مع الفرس، فلعل الدائرة تدور،
فينتقل المسلمون من جحيم العرب إلى جحيم الفرس، فيستغيث المسلم بالنار من
الرمضاء .. فيجمع المسلمون على أنفسهم عدوين، إذ كيف يكون الحال لو طلب
كسرى من بني شيبان ” تسليم محمد ” ؟ !

من حاطه من جميع جوانبه ؟

إذًن؛ .. من الذي سينصر دين الله ؟ ومن الذي سيقيم نظام الإسلام في الأرض ؟
ومن الذي سيطبق الشرع الإسلامي السمح ؟ ومن الذي سينصر الإسلام ؟

نعم ..

“من حاطه من جميع جوانبه ” !

فكل فرد حاط الإسلام من جميع جوانبه، عقيدة، وعبادة، ومعاملات، وأخلاق،
وفكر، وحركة، ودعوة، وجهاد- فهو ناصر لدين الله قائم على شرعه، وهو أحق
الناس بالتمكين .

وكل دولة حاطت الإسلام من جميع جوانبه، في العقيدة والعبادة، في الأخلاق
والمعاملات، في السياسة والسلطة، في الرحمة والعدل، في العلم والقضاء، في
التجارة والاقتصاد، في الجهاد والجيش .. ولم تفصل بين الإسلام والسياسة –
فالسياسة جزء من الإسلام -، ولم تفصل بين الإسلام والاقتصاد- فالاقتصاد جزء
من الإسلام كذلك-، ولم تفصل بين الإسلام والتربية – فالتربية جزء من
الإسلام أيضًا -…. ولم تفصل الإسلام عن الحياة، أو الحياة عن الإسلام،
فالإسلام منهج الحياة، والحياة لا تصلح دون الإسلام .

” وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً{125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى{126}” [ طه ] .

“إن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه”

فلا فائدة من تلك الدعوات الجزئية، والحركات المختلة، التي اجتزئت الإسلام،
فتشبثت بجزء من الإسلام ونامت عن جزء، أو أحيت جزءًا وأماتت جزءًا آخر،
فهذه الدعوات أفادت وأضرت، وأصابت وأخطأت، وقدمت وأخرت، وذلك لأنها لم تحط
بالإسلام من جميع جوانبه.

فمن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام مجرد تعاويذ وتصوف .

ومن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام هجرة وانقلابًا، وتكفيرًا وتفسيقًا .

ومن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام متونًا تُحفظ، وكتبًا تُدرس، ولا
اجتهاد، وأّخذت تحَّفظ الناس : لم يُبقْ الأولُ شيئًا للآخر، وكل شر في
اتباع من خلف.

ومن هذه الدعوات من جعلت الإسلام فِرَقًا ومذاهب، وفتنًا وملاحم، وليس لنا
من الأمر شيء سوى انتظار المهدي المنتظر، والمجدد المعتبر، وما علينا من
واجب سوى أن نعض بجزع شجرة، ونعتزل الناس والفجرة، فالعالم يموج بفتن
عمياء، وحرب صماء، وقصور مشيدة وآبار معطلة، ونساء عاريات، وليال ماجنات ..

وبين هذه الدعوات والفرق والملل، نرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
يرسم بيده الكريمة خطوطًا يمنة ويسرة، ثم يضع يده الطاهرة على الخط الأوسط
مناديًا :

“هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ !! “

ثم تلا هذه الأية الكريمة :

” وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ “[4].