هناك كائنات تتحرك بيننا على الطرق وفي المداخل والمخارج.. كائنات تعوّد معظمنا أن يتأفف منها ويعمل نفسه قرفان ويتمنى الحياة بدونها، ويظل الحديث الممتع دائما أن تخيل لو أن الدينا مافيهاش شحاتين وناس غلابة بيبعوا مناديل وعمال نظافة زاحمين الشوارع... وهذه الكائنات الضارة دائما!
والحقيقة أن هؤلاء بشر مثلنا وناس لهم كل الحق في الحياة، والحقيقة أن وجودهم ضروري تماما، ليس كضرورة وجود البكتيريا، ولا لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئا عبثا، فهذا كله تقليل من قيمة من حولنا وتعظيم زائف من قدر أنفسنا، وكأننا نحن فقط من سنخلص البشرية من جهلها وتخلفها، أما الباقون فهم مجرد كائنات لها الحق في الحياة نعم لكن في مرتبة أقل!
(1)
توقّف.. قلت لك توقّف.. هذا المسنّ الذي يقف منذ ربع الساعة يريد أن يعبر الطريق، ولكن قادة السيارات (الأكثر أهمية في الحياة) لا يمنحونه فرصة، إن اللحظة عندهم لها ثمن، ولكن هو أيضا من حقه أن يعبر، ولو كان شابا لتقافز بين السيارات كالبهلوان، ولكن هل تدهسه فقط لأنه ضعيف؟؟ قلت لك توقف ودع الرجل يعبر أمامك..
معظمنا لا ينتبه لهذه اللفتة الإنسانية رغم أهميتها وعظم تأثيرها على نفسية فاعلها نفسه.. إنك عندما تفعل الخير تشعر برحابة في صدرك ونشاط يدب في خلاياك ورقة في قلبك واستعداد لبذل خير جديد بثواب جديد..
(2)
أعطه واحدة.. . هذا الشرطي المسكين الذي يقف في قمة القيظ يتحمل الحرارة القاتلة لكي ينظم لك المرور ويسهّل لك الحركة عبر الطرق والممرات، يتصبب عرقا، بينما أنت لا تشعر بوجوده بل ربما تنفعل عليه إذا أشار إليك بالتوقف، تتأفف وتكرمش وجهك وتغلظ له النظرة، ثم تتناول واحدة من العصائر أو المياه الغازية لتشربها وأنت في سيارتك المكيفة، بينما هو في الشمس والغبار والدخان والضوضاء... لكنك أبدا لا تفكر فيه.. قلت لك أعطه واحدة فهو أحق بها منك..
تخيّل عندما تبتسم له وتناوله علبة باردة، أو على الأقل زجاجة مياه لا تكلفك الكثير، تخيل كيف سيكون شعوره وامتنانه لك، وبالتالي كيف ستشعر أنت؟ تخيل حجم السعادة التي تحرم نفسك منها يوميا دون مبرر بأن تحتد عليه وتغلظ له القول أو تنظر له بشراسة حيوان مفترس؟؟
(3)
هل تُحرجها؟ إنها مثل أمك.. نعم وإن كانت أمك سيدة مهندمة، تمكث في شرفة بيتها تقرأ القرآن أو تشاهد التلفاز، لكن هذه ليست لديها هذه الرفاهية.. إن لديها سبعة من الولد تعولهم بعد أن دهس القطار والدهم أو دهسه السرطان أو دهسته الآلة التي كان يعمل عليها... المهم أن الحياة دهسته ودهستها هي من بعده.. مضطرة أن تبيع أي شيء بأي ثمن لتكفي أولادها الجوع والعراء..
إنك مطلقا لا تفكر في الأمر بهذه الصورة، لا بد أن تكون امرأة شريرة تظهر الطيبة وتخفي الغلظة والقسوة داخلها، كما يزعم البعض أنها غنية جدا وتدعي دور الفقيرة لتحصل على المزيد، لكنها في الحقيقة لو تعلم أو لو أنك مستعد أن تعلم امرأة بائسة جنى عليها الدهر.. قل لي هل تقبل على نفسك بأي حال أن تجلس على الطرقات تبيع المناديل لتحصل بالكاد طول اليوم على عدة جنيهات لا تتعدى العشرة، ثم تقول إنها غنية وتدّعي وتمثّل؟؟؟
إن الشيطان يغلق علينا كل سبيل لفعل الخير، يُظهر الجانب القبيح من الناس حتى نصبح أنانيين أكثر.. يضخّم من حجم احتياجاتنا نحن حتى ننصرف عمن هو أكثر احتياجا.. نلتفّ حول ذواتنا لنهمل الآخر.. أنت طول الوقت مشغول بأن مرتبك الضخم لم يزد منذ فترة، ولهذا أنت متضايق ومكروب، في حين أن هذا الذي لا تفكر فيه ربما لا يتحصل على واحد من مائة مما تتقاضى أنت، وإحسانك إليه لن تشعر به، بل إنك تلقي الجنيهات دون أن تعرف أين ذهبت لكنك أبدا لا تعطيها لمن يحتاجها حقا..
الحل يكمن في الشعور.. في التخلص من الأنا.. في عدم فرض السيناريوهات السلبية.. في تعظيم الخالق والإيمان به والتوكل عليه.. أتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم -حتى الصلاة على النبي تبخل بها على نفسك- يقول في حديث عظيم: "خير الصدقة أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وترجو الغنى".. فما بالك إذا كنت لا تخشى على نفسك من جنيه لهذه وعشرة لذاك، ولا تؤثّر زجاجة مياه غازية تعطيها لشرطي مرور أو عامل نظافة في ميزانيتك.. إنك مطالب بأن تشعر بغيرك وتدخر الثواب والأجر عند الله..
ورمضان شهر التزيكة على الأبواب، فلتزكّ نفسك ولتنظر للأمور من زاوية مختلفة؛ لترى الدنيا بروح جديدة خارج احتياجاتك أنت وذاتك أنت ورغباتك أنت.. فأنت لست كل شيء في الحياة، بل حولك "كائنات" تمنحك معنى الحياة!