انكفاء بعض المجتمعات الإسلامية على شؤونها الخاصة يتنافى مع عالمية الإسلام ، تلك الرسالة الخالدة التي جاءت للزمن كله، حملها الأنبياء جميعاً ونادوا بالتوحيد، واجتـناب الطاغوت:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِـنْ رَسُـولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَـهَ إلاَّ أَنَـا فَـاعْبُدُونِ (52)}! (الأنبياء)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}! (النحل: 36)
وكلُّ الأنبياء أعلنوا أنهم مسلمون، ودعوا إلى الإسلام!
نوح ـ عليه السلام ـ قال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ (27)}! (يونس)
وإبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ قالا: {رَبَّـنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّ يَّتـِنَا أُمَّـةً مُسْلِمَةً لَكَ}! (البقرة: 128)
وتلك وصيّـة إبراهيم بنيه ويعقوب ـ عليهما السلام: {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْـقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (231)}! (البقرة)
ويوسف ـ عليه السلام ـ دعا ربّـه فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}! (يوسف)
وموسى ـ عليه السلام ـ قال: {يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ ءَ امَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)}! (يونس)
وسحرة فرعون حين آمنـوا قـالوا: {رَبَّنَا أَفْـرِغْ عَلَيْنَا صَبْـرًا وَتَوَفَّنَـا مُسْلِمِينَ (126)}! (الأعراف)
وسليمـان ـ عليه السـلام ـ بعث لبلقيـس: {أَلاَّ تَعْـلُوا عَـلَيَّ وَأْ تُـونِـي مُسْلِمِينَ (31)}! (النمل)
والحواريُّـون قالوا لعيسى عليه السلام: {ءَ امَـنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَ نَّـا مُسْلِمُونَ (52)}! (آل عمران)
إنها إذن ـ في جوهرها ـ رسالة الزمن كله.. ورسالة العالم كله!
إنها الرسالة الشاملة الكاملة.. العامة الخالدة.. تخاطب كل الأمم، وكل الأجناس، وكل الشعوب وكل الطبقات!
وليست رسالةً لشعب خاص، يزعم أنه وحده شعب الله المختار!.. وأن الناس جميعاً يجب أن يخضعوا له!
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْـفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( 1 )}! (الفرقان)
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا}! (الأعراف: 158)
إنها هداية ربّ الناس لكل الناس(1)!
وفي تقرير هذه الوحدة نقرأ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ}! (آل عمران: 19)
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْـخَاسِرِينَ (85)}! (آل عمران)
وهنا نرى الموكب الطهور ينتظم في القرآن الكريم، ويتلاحق متلاحماً في فطرة كقطرات الماء الزاخرة في البحر الطهور!
ونرى الرحمة الشاملة التي آخت بين بني الإنسان!
ونرى الموكب الطهور، والرحمة الشاملة، ونحن نبصر عالميّـة الرسالة، وأن الناس في حاجة ماسة إلى دعوة عالميّـة شاملة كاملة تحترم قـيمة الإنسان، وتـقدر كرامته، وتحوطه بسـياج اليقـين، وتطبعه على البر والرحمة!
في حاجة ماسة إلى دعوة عالميّـة تبـدّد ظلام الخوف، وتحقـق أسباب السلم، وتُـقِيمُ دعائم الأخوة!
في حاجة ماسة إلى دعوة عالميّـة تأخذ بيد الإنسان إلى مدارج الكمال والرقي، ليحيا منفعلاً بحقائق الكون وأسرار الوجود!
إن ميراث الرسالة العالميّـة الشاملة الكاملة ملك الناس جميعاً على سواء.. وحق القيام على تبليغ هذه الدعوة واجبٌ على كل من تبلغه:
{وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْـقُرْءَ انُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}! (الأنعام: 19)
وإذا افتخرت أمةٌ من الأمم بأن نبيّـاً منها فلتـفتخر الأمم كلُّـها بأن خاتم النبيين لها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}! (الأنبياء)
وفي تقرير وحدة (ثـقافة الأمّـة الوسط الخيّـرة) المترابطة المتـناسقة وإقامتها، والنهي عن تمزيقها نقرأ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْـنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّـيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَـفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْـمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُـوهُمْ إلَيْهِ}! (الشورى: 13)
وفي كشف دعاة التفريق والتمزيق، وفضح نواياهم الخبيثة الحاقدة وأساليبهم التي تحركها أهواؤهم الفاسدة نقرأ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}! (الأنعام: 159)
{أَفَتَـطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِـنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَـعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُـونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَـقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (57)}! (البقرة)
{وَإنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}! (البقرة)
المنهج الأمثل للحياة
وتصوِّر لنا شمول الرسالة الإسلامية لأطوار حياة الإنسان كلها.. أنَّى اتجه.. وأنَّى سار.. تصحبُه طفلاً، ويافـعاً، وشابّاً، وكهلاً، وشيخاً، وترسُم له في كل هذه المراحل المتعاقبة المنهج الأمثل الذي يُسعده(1)!
وهنا نبصر أحكاماً وتعاليم تتعلّق بالمولود منذ ساعة ميلاده.. مثل: التأذين في أذنه، واختيار اسم حسن له، وذبح عقيـقة عنه شكراً لله، وغير ذلك مما ضمنه إمام كابن القيم كتاباً مستقلاً سمّـاه (تحفة المودود في أحكام المولود)!
ونُبصر أحكاماً تتعلّـق بإرضاع الرضيع ومدته وفصاله وفطامه، ومن يُرضعه، وعلى من تكون نفـقةُ المرضعة أو أجـرتها(2).. وخصوصاً عند الطلاق وانفصال أمّ الرضيع عن أبيه، فهنا ينزل القرآن موضحاً مفصلاً كل ذلك، فيقول:
{وَالْـوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْـمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْـوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا ءَ اتَيْتُمْ بِالْـمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (332)}! (البقرة)
وبعد ذلك نجد أحكاماً تـتعلق بالإنسان صبيّاً وشاباً وكهلاً وشيخاً، فلا توجد مرحلةٌ من حياته دون أن يكون للإسلام فيها توجيه وتشريع.. وأكثر من ذلك أنها تُعنى بالإنسان قبل أن يولد، وبالإنسان بعد أن يموت.. ولا غرو أن وجدنا في الإسلام أحكاماً تتعلق بالجنين.. وأخرى مما يشمله ما يتعلق بـ(الجنائز)!
منـهج ربـّاني للحـياة
وتصوِّر لنا شمول الأخلاق في الإسلام لكل جوانب الحياة:
روحيّـة أو جسميّـةً!
دينيّـةً أو دنيويّـةً!
عقليّـةً أو عاطفيّـةً!
فرديّـةً أو اجتماعيّـةً!
حيث رسمت المنهج الأمثل للسلوك الرفيع.. وأوضحت العلاقة بين الإنسان والكون ـ كما أسلفنا ـ وقبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، ما يتعلق بحق الخالق العظيم الذي منه كل النعم وله كل الحمد.. فهو وحده الحقيق بأن يُحمد الحمد كله، وأن تُرجى رحمته الواسعة، وأن يُخشى عقابُه العادل.. وهو وحده الذي يستحق أن يُـعبد ويُـستعان، وأن تُطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم!
ومن هنا كان على المسلم أن يُـردِّ د الفاتحة سبع عشرة مرة على الحد الأدنى في كل يوم وليلة، وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلَّى السنن:
{بِسْمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ( 1 ) الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْـعَالَمِينَ ( 2 ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 3 ) مَـالِكِ يَــوْمِ الـدِّينِ ( 4 ) إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( 5 ) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( 7 )}! (سورة الفاتحة)
وبهذا يتجلَّى شمول الأخلاق الإسلاميّـة، من حيث موضوعها ومحتواها.. ولكن الشمول في الأخلاق الإسلاميّـة يبدو كذلك إذا نُظر إلى فلسفتها ومصدر الإ لزام بها!
لقد شاء الله للإسلام أن يكون الرسالة العامّـة الخالدة، فهو هداية الله للناس كافة، من كل الأمم، وكل الطبقات، وكل الأفراد، وكل الأجيال!
والناس تختلف مواهبُهم وطاقاتُهم الروحيّـة والعقليّـة والوجدانيّـة، وتـتفاوت مطامحهم وآمالهم، ودرجات اهتمامهم، ولهذا جمعت الفكرةُ الأخلاقيّـة في الإسلام ما فرقـته الطوائف الدينيّـة، والمذاهب الفلسفيّـة ـ مثاليّـة وواقعيّـة ـ في نظرتها إلى الأخلاق وتفسيرها لمصدر الإلزام الخُـلُقي، فلم يكن كل ما قالته هذه المذاهب والنظريّـات باطلاً، كما لم يكن كله حقّـاً، إنما كان عيب كل نظريّـة أنها نظرت من زاوية، وأغفلت أخرى، وهو أمرٌ لازم لتفكير البشر، الذي يستحيل عليه أن ينظر في قضيّـة ما نظراً يستوعب كل الأزمنة والأمكنة، وكل الأجناس والأشخاص، وكل الأحوال والجوانب، فهذا يحتاج إلى إحاطة إله علـيم حكـيم؛ فلا غرو إذا كانت نظرة الإسلام جامعةً محيطةً مستوعبةً؛ لأنها ليست نظريّـة بشـر، بل هي وحيُ من أحاط بكل شيءٍ علماً، وأحصى كل شيءٍ عدداً!
لهذا أودع الله في الاسلام ما يُشبع كل نهمة (معتدلة) وما يُقـنع كل ذي وجهة ( معتدلة ) ويلائم كل تطـوّر (معتدل)!
فمن كان مثاليّـاً ينزع إلى الخير لذات الخير وجد في أخلاقيّـات الإسلام ما يرضي مثاليّته!
ومن كان يؤمن بمقياس السعادة وجد في الفكرة الإسلاميّـة ما يحقّق سعادته وسعادة المجموع معه!
ومن كان يؤمن بمقياس المنفعة ـ فرديّـة أو اجتماعيّـة ـ وجد في الإسلام ما يرضى نفعيّـته!
ومن كان يؤمن بالتـرقِّي إلى الكمال وجد ما يحقِّـق طلبته.. ومن كان همّـه التكيّـف مع المجتمع وجد ما يلائـم اجتماعيـته!
حتى الذي يؤمن بأهميّـة اللذة الحسيّة يستطيع أن يجدها فيما أعد للمؤمنين في الجنة من نعيم مادي ومتاع حسي: {وَفِيهَا مَا تَشْـتَهِيهِ الأَنْـفُسُ وَتَـلَذُّ الأَعْـيُنُ}! (الزخرف: 71)
وبهذا تسمع كل أذن الأنشودة التي تحبّها، وتجد كل نفس الأمنية التي تهفو إليها، وفق المنهج الربّـاني الذي يصلح الحياة.. وغنيٌّ عن البيان شمول التشريع وشمول الالتزام(1)!