يقال إن التربية هي قبل كل شيء دراسة الإنسان ، ويستحيل أن توجد بدون معرفة الطفل ، معرفة تطوره الذهني وإهتماماته وهواياته وقدراته وطباعه وميوله .ففي تشكيل شخصية الإنسان تلعب سنوات الطفولة وحتى قبيل مرحلة الصبا دورا بالغ الأهمية وهذا ما أكده الكاتب الروسي العظيم ليف تولستوي (1828_1910 ) حين قال بأن الطفل يستقي من الوسط المحيط به منذ ولادته وحتى سن الخامسة ،اكثر لعقله ومشاعره وإرادته وطباعه مما يستقيه منذ الخامسة وحتى نهاية عمره . كما أكد نفس الفكرة المربي مكارينكو حين قال إن الإنسان يصبح على نفس النمو الذي صار عليه حتى الخامسة من عمره .
إن الطفولة من أهم فترات حياة الإنسان ، وهي ليست فترة إعداد للمستقبل بل هي حياة الحاضر، حياة قائمة بذاتها . سنوات ما قبل المدرسة واولى سنوات الدراسة تحدد مستقبل الإنسان ، لكن هذا لاينفي بأي حال من الأحوال إمكانية إعادة تربيته في سنوات صباه .
كثير من مشكلات السلوك التي يبديها الطفل في مستقبل حياته ترجع الى حرمانه من حاجات الطفولة وحرمانه من الحب وهو لايزال في المهد ، فالحب في الطفولة يمثل العلاقة الإنسانية الأولى في محيط الأسرة وتعتبر العامل الأول في تكوين اتجاهات هادفة نحو الحياة والمجتمع . لكن الحب الذي يصل الى مرحلة الأسراف والدلع يعطل نمو الطفل وإستقلاليته وثقته بنفسه وينمي فيه سلوكا انانيا أو عدوانيا .إن الأم التي تفرط في حب طفلها وتحاول أن تلبي كل طلباته يشب الطفل دون هموم أو مشاكل. فالحب الأعمى للأم يشبه من حيث الخطورة عدم الإكتراث واللامبالاة .
البعض يعتقد ان ترك الحبل على الغارب للأطفال منذ نعومة أظفارهم هو الطريقة السليمة للتربية الحديثة ، وهناك من يتبع الشدة والقسوة . وفي إعتقادي أن هذا خطأ كبير. فالأعتدال في طريقة التربية هو السلوك الصحيح .فهناك امور تستدعي الحزم والردع عن الخطأ .وإن الطريق الصحيح للتربية ليس في إصلاح الأخطاء التي ارتكبت في سنوات االطفولة المبكرة ، بل في الحيلولة دون وقوع هذه الأخطاء .
إن الجو الأسري والعلاقات الأجتماعية داخل الأسرة وكذا ثقافة الوالدين من العوامل الأساسية والمؤثرة في عملية النمو الأجتماعي للطفل وتكيفه في المجتمع . إن اساس شخصية الطفل يعتمد على ما توفره الأسرة للطفل من حب متبادل وتفاعل اجتماعي سليم مع احترام لشخصيته كفرد في حد ذاته . فالأسرة التي يعم فيها الود والألفة والتفاهم تهيء لأطفالها مناخا سويا يمكنهم من الأستمتاع بمرحلة الطفولة بما يشمله من امن ومحبة وحرية . اما الأسرة التي تنشأ فيها بذور الخلافات والكراهية ، فإنها تغرس في اطفالها الخوف والحقد والإنحراف والروح العدوانية . ويقال أن الطفل مرآة لاخلاقيات الوالدين . فكما تنعكس الشمس على صفحة الماء ، ينعكس صفاء اخلاقيات الأم والأب على الأطفال .فطيبة الأم والأب الروحية وقدرتهما على فعل الخير للآخرين تعتبر افضل سمة اخلاقية للوالدين الجيدين يمكن أن يستقيها الأطفال دون جهد يذكر . ففي العائلات التي يمنح الوالدين فيها الآخرين جزأ من روحيهما ، ويعيشان بكل وجدانهما افراح واحزان الغير ، يشب الأطفال طيبين مرهفي الحس . إن اكبر الشرور هي انانية وفردية بعض الوالدين . فإذا كان الأب والأم يمنحان كل حبهما لإبنائهما فقط ، فسوف ينقلب هذا الحب المفرط الى كارثة .وحين يغيب جو الصداقة بين الوالدين والأطفال ، والأحترام المتبادل بين الأم والأب تستحيل الحياة السعيدة للطفل .
إن رهافة الحس وصفاء الروح ظاهرتان تتشكلان في سنوات الطفولة وإن ما يتعلمه المرء في طفولته ، يظل عالقا بذكراه ابدا : فليظل عالقا بوعي الطفل حب الناس وعمل الخير .