هل أنت موهوب؟ قد تجيب عن هذا السؤال: وكيف أكون موهوباً والناس من حولي لم يعترفوا لي بالنبوغ بعد، ولم يسبق لي أن نبغت في مجال ما من مجالات الحياة؟
وهنا نميز بين الموهبة كمعطية مطمورة بداخلك وبين الموهبة كواقع خارج ذاتك وقد خرجت من حيز نفسك إلى المجتمع من حولك. لقد تكون موهوباً بمواهب فذة ونادرة ولكن لم تتح لك الفرصة حتى هذه اللحظة لكي تخرج الكنز المخبوء بداخلك وتترجمه في واقع حياتك إلى كنز حي معترف به من الجميع.
إنك تقول لنفسك أحياناً (إني أستطيع أن أتى بنغمات جديدة مع أني لا أعرف شيئاً عن الموسيقى، ولم يسبق أن قمت بالتلحين إننا نقول لك إن أحداً لن يمد يده إليك يظهرك على ما وهبته من مواهب. العكس هو الصحيح. إنك ستجد مقاومة لما قد تبديه من مواهب. وتتبدى تلك المقاومة في الاستخفاف بك، أو في السخرية مما تقوم بعمله أو إنتاجه أو قوله أو كتابته أو عزفه.
إننا نقول لك أيضاً إنه كم من أصحاب مواهب انصرفوا عما بدأوا فيه خوفاً من نقد النقاد أو درءاً لاستهزاء المستهزئين. ولكن القليل من أصحاب المواهب لم يعبأوا بما يقوله الناس عنهم.
ولكن هل الطريق إلى المجد والشهرة قصير؟ إننا نسارع إلى القول بأن هناك نوعين من الشهرة: نوع رخيص وآخر ثمين.
والنوع الرخيص من الشهرة يتأتى لبعض الناس بسرعة وبغير إعداد طويل، وهي شهرة هشة تتبخر بسرعة. أما النوع الثمين من الشهرة فان الطريق المؤدية إليه ليست مفروشة بالورود والرياحين، بل هي مفروشة بالأشواك وهي طريق طويلة.
ونصيحتنا لك ألا تعجل الشهرة في الحياة ولا تكون هدفك الأسمى. ذلك أن الشهرة من النوع الثاني الثمين تكون ثمرة لجهود طويلة وشاقة. فعليك بالسعي وراء مواهبك بغير أن تلقي بالاً إلى إحراز الشهرة. إن الشهرة سوف تكون من نصيبك بغير أن تسعى في أثرها. اترك الناس يحسون بك بغير أن تلاحقهم وبغير أن تلح عليهم بأن يعترفوا بك وبمواهبك. جرب وجرب بغير يأس أو نكوص. وإذا وجدت أنك تتقدم فيما بدأت فيه فسر دائباً إلى الأمام بغير توقف.
اقض الوقت الطويل في استثمار مواهبك. لا تظن أن العبقرية موهبة فطرية تفرض نفسها على صاحبها بغير أن يبذل جهداً لاستنباطها وإبرازها إلى حيز الوجود. صحيح إن الموهبة أو العبقرية قد تلح على ذهنك، ولكن إلحاحها لا يعني أنها تخرج إلى حيز الوجود بغير جهد أو عرق. اقرأ تاريخ أي عبقري تجده يتلخص في عناصر ثلاثة: الموهبة والوقت والجهد.
لا تجعل مشاغل الحياة تطفئ مواهبك. كم من طبيب كان يمكن أن يخلد اسمه في عداد عباقرة الطب، ولكن انشغاله في عيادته وسعيه للكسب دون ملاحقة مواكب علوم الطب وفنونه قد حكم عليه بأن يقضي حياته في الظل.
إذا كنت صاحب مواهب فذة، فلابد أن تتفوق إذن. والتفوق ليس معناه أن تستوعب الموجود من العلم أو التخصص أو المضمار الذي تعمل فيه فحسب، بل معناه أن تتفوق على ذلك الموجود، وأن تمتد بالحضارة ولو خطوة واحدة إلى الأمام. فالعبقري ليس مَن يعيش على غذاء عقلي أعده له غيره، بل هو ذلك الذي يشارك في إعداد وجبات عقلية جديدة يقبل الآخرون على الاغتذاء بها.
ولكن العبقري لا يبدأ بالإبداع بل ينتهي إليه.
انه شخص سريع الامتصاص لما هو موجود بحيث يمتد بعد ذلك إلى آفاق جديدة لم يسبقه أحد إليها. على أن العبقرية شخص مشارك أيضاً فيما يقرأ وفيما يطلع عليه. انه كالممثل البارع الذي لا يكتفي بقراءة الأدوار التي يقوم بتمثيلها، بل هو يتقمص الشخصيات المعروضة أمامه في تلك الأدوار. فهو لا يردد ما كتب في المسرحية، بل يعيشها بعقله ووجدانه معاً. والعبقري يحيا واقعه وفكره ولكنه يؤلف مع المؤلف الذي يقرأ له، ويخترع مع المخترع الذي يشاهد اختراعه، ويجرب مع صاحب الكشف العلمي، ويعاني مع الفنان في مرسمه ومع الشاعر في قرض شعره.
وبينما نقول إن العبقرية نادرة، فإننا لا نستطيع أن نقول نفس الشيء بإزاء النبوغ. فكل الناس العاديين يتسنى لهم النبوغ في مجال ما من مجالات الحياة الكثيرة جداً. المهم هو أن يعرفوا المجال الذي يمكن أن يحققوا لأنفسهم النبوغ فيه، ثم يأخذوا في استثمار مواهبهم الاستثمار الصحيح وبالطريقة الصحيحة.
إذن فلتبدأ فوراً يا صديقي بالنهوض والخروج من نطاق التبعية الفكرية إلى رحابة الابتكار. ابتكر ي شيء. هل حاولت مثلاً أن تسجل أفكارك؟ هل حاولت قرض الشعر أو كتابة قصة أو رسم لوحة أو تلحين أغنية تكون أنت مؤلفها وملحنها معاً؟ إننا نهيب بك أن تشق عباب المجهول فربما يكون لك حظ كبير فيه وأنت غافل عن الممكن المطمور في حنايا شخصيتك.
وحتى بالنسبة للعبقرية التي قلنا إنها موقوفة على فئة نادرة من الناس، فان علم النفس الحديث لا يغلق باب العبقرية أمام الأشخاص العاديين.
يقول لنا علم النفس الحديث إن العبقرية لا تظهر في فراغ، بل تظهر في سلوك العبقري. والسلوك نوعان: سلوك المواقف والعلاقات الاجتماعية، وسلوك الفكر والوجدان. فرمسيس الثاني كان عبقرياً بما أظهره من عبقرية حربية. ومصطفى كامل كان عبقرياً بما أظهره من عبقرية سياسية، وطلعت حرب كان عبقرياً بما أظهره من عبقرية اقتصادية.
وهكذا يظهر من هذه الأمثلة أن العبقرية ليست عبقرية واحدة، بل هي عبقريات كثيرة. ونستطيع أن نقر أن العبقرية لا تتعلق بشخص العبقري، بل هي تتعلق بالعلاقة بين العبقري وبين المجال الذي يعمل فيه. فأنت لا تكون عبقرياً إلا إذا تركت بصمتك على مجال ما من مجالات الحياة. ولقد نقول أكثر من هذا إن عبقريتك لا تتبدى إلا إذا شققت طريقاً جديداً لم يسبقك أحد إليه.
فالعبقرية إذن تتميز أولاً وقبل كل شيء بالابتكار. فإذا كنت شخصية مبتكرة، فأنت إذن عبقري. أما إذا كنت تسير وراء غيرك، أو إذا كنت مقلداً للآخرين في فكرك أو عملك فإنك لا تكون من العبقرية في شيء.
ولكن العبقرية لا تهبط عليك فجأة. إنك لكي تبتكر لابد أن تسير أولاً في ظل غيرك. وبتعبير آخر نقول إن امتصاص خبرات الآخرين أو التفاعل معها ضروري للعبقري. فالتقليد والاستيعاب يسبقان الجديد والمبتكر.
فالعبقري يمر بمرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة التلمذة، والمرحلة الثانية هي مرحلة الأستاذية. ولكن يجب أن نؤكد أن هاتين المرحلتين متداخلتان. فالعبقري وإن كان يمر في مرحلة التلمذة وحدها في طفولته وشبابه، فإن مرحلة الأستاذية التي تتجلى فيها عبقريته تظل متداخلة أو مبطنة بالتلمذة.
فأنت عبقري إذا أردت. ولكن ما تسمعه عن شذوذ العباقرة ليس شرطاً ضرورياً يرتبط بشخصية العبقري. وحذار من الارتماء في أحضان الشذوذ أو الخروج عن المألوف ظناً منك أن الشذوذ أو الخروج عن المألوف يكسبك عبقرية في أنظار الناس. إن عبقرية العبقري لا تقاس بمظهره أو تصرفاته الشخصية، بل تقاس في ضوء ما يخلفه وراء من فكر أو عمل مبتكر.