بتهون , قصة تروي معانات الشعب الفلسطيني

كان الوقت صباحاً و شمس حزيران الحامية قد اشرقت و بدأت تزحف
بأشعتها الذهبية على جبال الناصرة و تنشر خيوطها على سطوح الأبنية العالية
فتخترق منازلها و تملأوها دفئاً و حرارة . و كانت شوارع المدينة مقفرة كلاأرض
الخراب يخيم عليها سكون عميق يبعث الرهبة في النفوس , يتخلله أصوات
رقيقة مألوفة تنادي لبن لبن .... تاخذوا لبن .... , ووقع اقدام تدق الأرض
راسخة منتظمة ثقيلة لعمال من الناصرة كانوا هم أيضاً في طريقهم الى ساحة
الكاراجات .

- خير مشوارك يا أبو سليم .
- والله رايح أجيب بقرة من ( قيبوتس ) قريب من حيفا .
- البقرة الك ؟
- لا والله , كنت واسطة خير في بيعها المحمد خضر عبد العزيز من الينة
و كلفني بنقلها للناصرة .

كان ( أبو سليم )حسن عبد القادر جمعة ,سمسار حيوانات يتعاطى بيعها
و شراها في القرى و في سوق الاثنين المعروف بالناصرة , و هو أشهر من أن
يعرف و قل من لم يعرفه او يسمع باسمه أحد من سكان الناصرة و القضاء , فقد
مضى على عمله هذا زهاء العشرين سنة خبر خلالها جميع أنواع تجارة الطرش
و الدواب , كما أن الذين يقصدون سوق الاثنين لا يعرفون سواه و لا يكلفون
غيره بقضاء حاجتهم , فهو الكل بالكل في السوق شعلة من الحركة و النشاط .
لسان ماض ثرثار , و وجه ضاحك جذاب , و ذكاء نادر , صاح بديهة عجيبة
و طريقة غريبة في المفاوضة و المقايضة ( و التطبيق )... رجل دائم الحركة ما خلق
إلا لهذا النوع من العمل , يقفز من مكان الى مكان مرحباً و مسلماً ومنجزاً صفقة
بعد صفقة في لباقة و سرعة عظيمتين , فيبيع من الدواب و المواشي ما ييسر له
الله بيعه و يقبض بعد دفع ( الباج ) ما يتيح لاسرته قوتها اليومي .

كان مربوع القامة ممتلأ الجسم في السادس و الاربعين من عمره , لباسه
الأعتيادي الثياب العربية , الجاكيت و القمباز و الكوفية و العقال , أما اليوم ......

.... فكان يرتدي القميص الكاكي المشدود الى رقبته دون رباط , و بنطلون
السواري البدي اللون الواسع و المزموم ما تحت الركبة حتى القدمين , و يحمل
بيده خيزرانة رقيقة صفراء , وكان رأسه حاسراً تعلوه شعراتٌ سوداء و بيضاء
مقرمطة مشعثة .و جدير بالقول ان لباس رأسه و ان كان الكوفية و العقال فقد
فعلمته التجارب كلما اراد السفر الى حيفا ان يخلع كوفيته البيضاء و عقاله الأسود
المفتول و يمضي حاصر الرأس تجنباً للفت النظر و همسات السخرية و الازدراء
و عبارات ( عربيم عربيم ) التي يوجهها صبيان اليهود الى لابسي الثياب العربية في
حيفا اليهودية . و لما كان القانون يحظر نقل الحيوانات من مكان الى اخر دون
اذن خطي من السلطات المختصة , فقد حصل ابو سليم على تصريح يخوله نقل
البقرة الى الناصرة او يخول البقرة دخول المنطقة المحظورة في الناصرة ....

و ما هي الا دقائق معدودة حتى بلغ( ابو سليم ) و ( أبو أحمد) سيارة الباص
و اتخذا لهما مكاناً في النقعد الملاصق للباب الوسط ليسهل على (أبو أحمد ) امساك
السدر في الفسحة التي تقوم امام هذا المقعد و هو امر لا يستطيعه في المقاعد
الاخرى . و سرعان ما تحركت السيارة و راحت تطوي الأرضبأربعين راكباً
الى حيف .

كانت الطريق اخذت تصخب بحركة الصباح , و الشمس قد اعتلت الأفق
و أرسلت اشعتها الحامية فوق التلال و الوديان . كان كل ما حولها جميلاً رائعً
الصباح بنسيمه و السماء بصفائها و الحقول بنباتاتها و ازهارها , كلها تفتن الناظر
و تحبب اليه الحياة . غير أن أبو أحمد لم تهزه هذه المناظر الخلابة ولم يستهوه
جمالها , و لم يكن يرى فعلاً سوى الطريق الممتدة امامه الى ما لا نهاية ... فكان
كل ما حوله شئ اعتيادي يبعث على السأم و الضجر لكثرة ما مرة به و شاهده في
السنين الأخيرة , و قد كرهه وله وود لو ينقطع عنه لولا لقمة العيش .

أما أبو سليم فكان مرحاً كعادته , فرحاً لهذه السفرة اللذيذة التي لم يسلكها
منذ ستة اشهر , فتبسط في قعدته تداعب شعراته المشعثة البيضاء نسمات الصباح
الباردة مجيلاً بصره هنا و هناك , محدقاً بشغف الى كل ما تقع عليه عيناه .

..... الى شجر الصبر الذي يحيط بالطريق أمامه ... الى سنابل القمح الصفراء التي
تغطي المرتفعات و المنخفضات عن يمينه و يساره ... الى مرج ابن عامر المنبسط
تحت نظره كبساط من السندس المزركش ...الى أشجار التين المورقة الخضراء
القائمة في بستان بئر الأمير في الوادي القريب . فملأته هذه المناظر الرائعة نشوة
و مال على أبو أحمد يقول :
- يا ريتني شوفير يا أبو أحمد !
- شغلة متعبة و محفوفة بالخطر .
- كل يوم بتنزل لحيفا ؟
- تقريباً .
- و اليهود بوكلوا هريسة ؟
- بوكلوني اذا تمكنوا .
فضحك أبو سليم و قال :
- إسا عرفت ليش انقهرت لما دقيت بالسدر , يمكن بروح السدر معك بسهولة .
- مش كله .
- ليش ؟
- بياعة الهرية اليهود قاموا علي و تشكوا وادعوا اني بضاربهم , قامت
بلدية حيفا منعتني من البيع و صارت تطاردني و تمسكني . و ما رديتش عليها و صرت
ابيع في الحارات المتطرفة بعيد عن البوليس البلدي , و مشي حالي مدة مليح
حتى عرف الحاكم العسكري بأمري اتدخل و منعني ازنزل لحيفا تحت أي سبب .
من يومها صرت أنزل أبيع في العادة خارج حدود بلدة حيفا على موقف
الباصات .
- بتهون يا أبو أحمد .
- بتهون ان شاء الله . و تنهد ابو احمد تنهدة خرجت من أعماقع .
فقال أبو سليم :
- ليش بتنافخ ؟

صفحة 4

- من الله يا ابو سليم .
- كيف من الله , احكي شو المسألة ؟
- لما مشي حالى و صرت أبيع بدل السدر سدرين , قطعت الحكومة
رزقي بحجة سلامة الدولة و الامن العام و ربما بيعاز من بوليس حيفا ... و هاي
حجتهم دايماً . فقال ابو سليم مستغرباً :
- و شو علاقة بيع الهريسة بالأمن الامن العام يا رجل ؟
- لما كنت ابيع هريستس الشقفة بعشر قروش و اليهود ببعوها بخمسطعشر
قرش , صرت بعين الحاكم العسكري خطر على سلامة الدولة و الامن العام .
- مفهمتش يا ابو أحمد , فسر أكتر .
يعني لما مشي حالي بحيفا وصارت هريستي تنفق بسهولة , صار أبو أحمد
يهدد سلامة الدولة . فقهقه أبو سليم ضاحكاً ...
- لو كنت اعرف انو هريستك بتشكل خطر على سلامة الدولة و الأمن
العام , ما كنت اكلت شقفتين احسن ما الحكومة تعملي عملة .
- و هيك صار يا ابو سليم ... سحب الحاكم العسكري تصريحي و قطع رزقي
, و لما احتجيت كثير قام الحاكم تلطف و أعطاني تصريح انزل ابيع في السعادة
بشرط ما أفوت المدينة ابداً , ومن سنة ما فت حيفا .

وهنا ضرب ابو سليم جيبه و تحسس عبه و قد اضطرب بدنه و اصفر لونه ,
ثم قال :
- علقة سودا يا ابو أحمد !!
فالتفت ابو احمد اليه و قال :
- شو مالك ؟
- تصريحي يا ابو احمد , ملا علقة .... فطنتني بالتصريح , واستمر ابو سليم
يفتش جيوبه بعصبية ظاهرة لفتت انتباه ركاب السيارة .
- شو المسألة يا ابو سليم احكي
- لا حول ولا قوة إلا بالله , يظهر اني نسيت تصريحي في البيت .

- مش كلام , فتش جيوبك مليح , فتش زنارك العريض .
- فتشت كتير , و الهوية كمان نسيتها في البيت , اللهم صلي و سلم على نبينا ,
شو صارلي , وين راح عقلي , وكيف نسيتهم .
- فتش , فتش مليح .
- تصريح البقرة لقيته , كرتونة صفرا , خذ امسك احسن ما يضيع كمان .

و ظل او سليم بفتش عبه و جيوبه برهة الى أن قال :
- لا حول و لا ... إسا البوليس اليهودي بتناولني في نهلال و ابصر شو بعمل
لي , شو أقول يا ابو أحمد مصيبة ... علقة سودا ... يقصف عمرك يا ام سليم ,
كيف نسيتي تنقلي الهوية و التصريح من جيب القمباز لجيب البنطلون .

و لا بد من القول هنا أن كل عربي ذكراً كان أو أنثى يقيم داخل المنطقة
المحظورة التي تضم تسعين في الماية من عرب اسرائيل البالغ عددهم مائتي الف
عربياً ينبغي عليه كلما أراد ان يبرح بلده لساعة أو يوم او أكثر و لسبب معقول ,
ان يحصل على تصريح اأي اذن خطي من الحاكم العسكري لتلك المنتطقة . و لما
كانت الناصرة التي يزيد عدد سكانها عن ثلاثة و عشرين الف نسمة , و ما حولها
من القرى منطقة عسكرية محظورة نمنذ احدى عشر نة , لذلك كان لزاماً
على ابو سليم أن يحصل على تصريح خروج الى حيفا و أن يكون في حوزته لدى
خروجه و عودته الى الناصرة , و الا يكون قد أخل بانظمة الطوارئ العسكرية
فيغرم أو يسجن مقتضى الحال .

و رف ابو سليم عقيرته و صاح :
- يا شوفير ... وقف يا شوفير , بدي أنزل , محسوبك نسي تصريحه
و هويته في البيت ... بعد نص ساعة البوليس الحربي بيمسكني بمحطة نهلال
وبيجرب في فيّ حسايب , يمكن يفتكرني متسلل و يرميني على الحدود .

و ضجة في جوانب الباص ضحكات بين المكبوتة و العاليهة , و قال أحد
الركاب : المسألة بسيطة يا ابو سليم عشرين ليرة غرامة .
- عشرين ليرة غير البهدلة و العزارة و الإهانة . و راح أبو سليم ينقل بصره .....