ظهر اضطراب القلق الاجتماعي Social Anxiety Disorder كتشخيص طبنفسي مستقل أول ما ظهر في التصنيف الأمريكي الثالث (DSM-lll (APA, 1980 ووصف ساعتها بأنه اضطراب قلقٍ مهمل من الناحية البحثية (Liebowitz, et al., 1985) وبالفعل كان في ذلك الوقت قد دُرِس أقلَّ مقارنة باضطرابات القلق الأخرى، إلا أن أربعة عشر عاما تلت صدور هذا التصنيف حدث خلالها اهتمام بتشخيص الرهاب الاجتماعي ومدى انتشاره وكذلك فهمه وعلاجه حتى وصف في النسخة الرابعة من التصنيف الأمريكي DSM-IV بأنه واحدٌ من أكثر الاضطرابات النفسية انتشارا (APA, 1994).
التعريف: ما هو الرهاب الاجتماعي؟
الرهاب الاجتماعي هو الخوف المفرط أو غير المبرر من المواقف أو المناسبات الاجتماعية والتفاعل فيها مع الناس حيث يتملك الشخص انشغالٌ بالوعي المفرط بالذات وتقييم أدائها الاجتماعي وبالشعورِ بالدونية بشكل أو بآخر، ويعتبر الخوف من التقييم السلبي من شخص أو أشخاص آخرين هو الخوف الجوهري في الرهاب الاجتماعي (Beck & Emery, 1985) ودائما ما يكون مريض الرهاب الاجتماعي مفرط الحساسية لتقييمات الآخرين، ويؤدي إدراكه لأي تفاعل اجتماعي سلبي (كالنظر إلى السقف مثلا أو التثاؤب أثناء الحديث معه) من الآخرين إلى زيادة مطردة في القلق تنتج أعراض القلق أو الخجل الجسدية مثل احمرار الوجه والرعشة والتوتر العضلي والعرق...إلخ (Rapee & Heimberg, 1997) والتي بدورها ترغم الشخص إما على الهروب من الموقف أو محاولة إخفاء الارتباك، بأي طريقة عندما يتعذر التحاشي أو الهرب.
الصورة الإكلينيكية للرهاب الاجتماعي
من الشائع في معظم مرضى الرهاب الاجتماعي في المناسبات أو المواقف الاجتماعية أن تكتمل أجزاء حلقة مفرغة من إدراك تقييم الآخرين السلبي والذي يؤدي لزيادة في القلق وفي الأعراض الجسدية التي بدورها تزيد من الارتباك والخوف من أو الشعور بتقييم الآخرين السلبي وهكذا..... ورغم أن أعراض الرهاب الاجتماعي الجسدية قد تصل في الحالات الشديدة إلى حد حدوث نوبات هلع، إلا أن انشغال المريض في الموقف يكون بعواقب التفاعل الاجتماعي في الموقف وليس بنوبة الهلع أو أيٍّ من أعراضها، بينما ينشغل مرضى اضطراب نوبات الهلع بالنوبة وأعراضها بغض النظر عن الموقف وينشغل مريض رهاب الساحة بخليط ما من الخوف من النوبة أو أعراضها والخوف من التواجد في موقف يؤدي لحدوثها.
ويمكن أن يختلف عدد المواقف أو المناسبات الاجتماعية التي يخافها مريض الرهاب الاجتماعي من موقف واحد أو نوعية واحدة من المواقف كما في حالات الرهاب الاجتماعي المعين Specific Social Phobia إلى كل المواقف الاجتماعية في حالات الرهاب الاجتماعي المتعمم Generalized Social Phobia ، لكننا بشكل عام نستطيع تصنيف المواقف المخشية أو المخشي منها في مرضى الرهاب الاجتماعي إلى نوعين هما التفاعل الاجتماعي Social Interaction والأداء الاجتماعي Social Performance ، فأما الذين يخشون عواقب التفاعل الاجتماعي بشكل عام فيتجنبون الحفلات والمقابلات عامة وبصورة خاصة مع الغرباء ويتجنبون المحادثات الرسمية وغير الرسمية ويتجنبون النظر في عيون الآخرين أو التقاء العيون كما يتجنبون رموز السلطة والمواقف التي تحتاج إلى التوكيدية، وأما الذين يخشون الأداء الاجتماعي فيتجنبون التحدث أمام جمهور والأكل أو الشرب أو الكتابة أمام الآخرين وكذلك استخدام المراحيض العامة وأي أداء أمام الآخرين بشكل عام.
معدلات الانتشار والمسار المرضي
الرهاب الاجتماعي هو من أكثر أنواع الرهاب انتشارا حسبما نعرف كأطباء نفسانيين (لأن من الممكن أن توجد حالات رهاب كثيرة لا يشتكي منها أصحابها ويبقونها سرية)، والرهاب الاجتماعي هو ثالث أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا حسب نتائج الدراسات الغربية إذ يبلغ معدل الانتشار الحياتي للرهاب الاجتماعي تقريبا 15% ومعدل الانتشار المرحلي 2-3% وتبلغ نسبة الإناث: الذكور = 3 : 2 في الجمهور العام بينما تبلغ 1:1 في العيادات النفسية،...
وعادة ما يبدأ الرهاب الاجتماعي في الطفولة أو الرشد المبكر وقد يبدأ عقب حدث معين أو يبدأ متلصصا، إلا أن من الشائع في الحالات ذات البداية المبكرة أن يصف المريض بداية حالته بأنها كانت موجودة منذ أبكر ما يستطيع تذكره، والرهاب الاجتماعي أقل انتشارا في كبار السن مقارنة بالصغار إلا أن الحالات التي تكون شديدة بالقدر الذي يسمح بالتشخيص يمكن أن توجد في أي مرحلة سنية وتأخذ نفس الشكل الإكلينيكي (Gretarsdottir, et al., 2004)... وفي غياب العلاج عادة ما يحدث الاكتئاب الجسيم بعد فترة من المعاناة من الرهاب الاجتماعي وفي كثير من الأحيان تظهر في المريض أعراضٌ لبعض اضطرابات القلق الأخرى من وقت لآخر.
ورغم أن وجود الخجل الشديد في التاريخ قبل المرضي شائع جدا في أكثر حالات الرهاب الاجتماعي ورغم أن نسبة المصابين بالرهاب الاجتماعي في الأشخاص الخجولين تعادل ستة أضعاف نسبتهم في غير الخجولين، رغم ذلك فإن الرهاب الاجتماعي ليس مجرد خجل شديد.
ويتسبب الرهاب الاجتماعي في إعاقة اجتماعية كبيرة في كل مناحي الحياة فيؤثر على العلاقات والعمل واحترام الذات والتوكيدية.... وفي غياب العلاج يتخذ مسارًا مزمنا متصلا... ومعظم مرضى الرهاب الاجتماعي لا يطلبون العلاج.. وحين يفعلون فإن السبب غالبا ما يكون تغيُّرًا في ظروف حياتهم....
معايير التشخيص
يجب أن نشير إلى أن النسب السابقة مبنية على أساس تشخيص اضطراب الرهاب الاجتماعي بشروط معينة هي معايير التشخيص الأمريكية حسب التصنيف الرابع وهي:
* الخوف المستمر من المواقف الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي، حيث يخاف الشخص من أنه سيتصرف بطريقة مخزية أو مربكة.
* التعرض لهذه المواقف يثير القلق دائما تقريبا.
* يرى الشخص أن خوفه هذا مفرط أو لا معقول.
* يتحاشى الشخص هذه المواقف أو يتحملها بضيق حاد.
معنى ذلك أن مريض الرهاب الاجتماعي يجب أن يعرف أن خوفه من المواقف الاجتماعية مفرط وليس مبررا لكنه لا يستطيع التحكم فيه ولا في أعراض القلق التي تسيطر عليه أثنائها ولذلك فهو يتحاشى تلك المواقف أو بالكاد يطيقها، وربما لو استخدمنا محكات تشخيصية أو معايير تشخيص أخرى لوجدنا نسب الانتشار مختلفة.....
وبينما يتركز خوف مريض الرهاب الاجتماعي في صورته الغربية على عواقب الأداء الاجتماعي السيئ أو غير المناسب من حيث تقييم الشخص تقييما سلبيا من قبل الآخرين، فإننا نجد في الثقافات الشرقية شكلا آخر للرهاب الاجتماعي يسمى تايجين كويفوشو Taijin-Kyofusho ونجد فيه أن خوف المريض إنما يتركز على ما قد يضايق الآخرين ويزعجهم من تصرفاته أو أدائه الاجتماعي السيئ أو غير المناسب، فبينما يهتم المريض في الثقافات الغربية بمضايقة الآخرين له ولو على مستوى تقييمهم السلبي له، يهتم المريض في الثقافات الشرقية بمضايقته هو للآخرين.... وإن كانت النتيجة في هذين الشكلين من أشكال الرهاب الاجتماعي هي التحاشي والهروب قدر المستطاع من المواقف الاجتماعية.
الأسباب المفترضة للرهاب الاجتماعي
ليست هناك معرفة أكيدة أو كاملة بأسباب الرهاب الاجتماعي إلا أن عوامل عديدة يلعب كل منها دورا في بعض الحالات، وبالتالي فإن كثيرا من البحث ما يزال مطلوبا لمعرفة الأسباب بدقة أكثر، ومن أهم العوامل الفاعلة:
-1- الوراثة:
أحد أكثر العواملِ الثابتةِ لحدوث الرهاب الاجتماعيِ هو وجود تاريخ عائلي إيجابي للقلقِ. وقد استكشفتْ عِدّة دِراسات عائلية العوامل الوراثية في الرهاب الاجتماعي حيث وَجدتْ نِسَبًا أعلى مِنْ الرهاب الاجتماعي في أقرباءِ المرضى المصابين به(تقريباً ضعفان إلى ثلاثة أضعاف خطر متزايد) بالمقارنة مع المجموعة الضابطة، ورغم قوة دلالة تلك الدراسات إلا أن العوامل الوراثية وحدها لا تكفي لشرح أسباب كل حالات الرهاب الاجتماعي.
-2- المزاج Temperament
الحساسية المزاجية المفرطة والتي تؤدي منذ الطفولة إلى النزوع للخجل الشديد، يتميز بعض الأطفال بالكف السلوكي Behavioral Inhibition حيث يظهر الطفل انسحابا أوليِا من الأشخاص الغرباء والأحداثِ الغريبةِ عليه ويُرى هذا الكف السلوكي كتركيب مزاجي أولي يَعْكسُ اختلافات فردية حيوية مستقرّة نسبياً في النمط السلوكيِ للشخص، وهو الذي يحدد ما إذا كان الشخص سيميل إلى التفاعل أو الانسحاب الاجتماعي.
-3- التأثيرات الوالدية والمناخ العاطفي الأسري:
عادة ما يتعلم الطفل كيفية التفاعل الاجتماعي من والديه وأقربائه وقد بينت الدراسات أن المراهقين ذوي المستويات العالية من القلق غالبا ما ينتمون لأسر يرونها أقل اندماجا في المجتمع، كذلك فإن المناخ العاطفي Emotional Climate للأسرة له تأثير كبير فالوالدان كثيري القلق بشكل عام كثيرا ما يحدون من حرية انطلاق أطفالهم بدافع الخوف عليهم وهو ما يحد من قدرتهم على التفاعل الاجتماعي بحرية.
-4- التشريط الرضحي Traumatic Conditioning :
في حالات كثيرة تظهر أعراض الرهاب الاجتماعي بعد خبرة اجتماعية رضحية بالضبط كما تحدث أنواع الرهاب الأخرى بعد التعرض لخبرة خوف شديدة مثلا رهاب الكلاب بعد التعرض للأذى من أحد الكلاب، أو رهاب المصعد الكهربائي بعد التعرض لخبرة انقطاع التيار الكهربي والبقاء حبيسا في المصعد لفترة معقولة.. إلخ.
وهناك عدد من الصياغات المعرفية التي تبين كيف يبدأ ويتطور الرهاب الاجتماعي وكذلك كيفية إدامته من خلال تحيزات معرفية عديدة سواء في تأويل الشخص للأحداث والمواقف الاجتماعية أو تحيزات في الانتباه، وسوف نفرد مقالا للنظريات المعرفية للرهاب الاجتماعي.