هناك ثلاث أركان رئيسة للتفكير السليم :
- الركن الأول سلامة التفكير من حيث انه مطابق للواقع الموضوعي الخارجي إذا كان منصبا على ذلك الواقع الموضوعي المحيط بالمرء خارج نطاقه الداخلي , ومن حيث انه متصف بالاستمرارية وعدم التقطع , ومن حيث انه مناقض بعضه لبعض , وأخيرا من حيث الجهد المبذول والطرق المؤدية إلى تلك الحقيقة أو الحقائق الموضوعية . فيجب أن يكون الجهد بأقل كمية ممكنة , ومن اقصر الطرق المؤدية إلى تلك الحقيقة أو الحقائق الموضوعية . فيجب أن يكون الجهد بأقل كمية ممكنة , ومن اقصر طريق مؤدية إليها .
- الركن الثاني للتفكير السليم – فهو جمال التفكير فالوقوف على النسب الجميلة وتمييز الألوان المتجانسة والوقوف على الأنغام المتناسقة وإدراك الحركات الرشيقة وتحديدها وتمييزها من الحركات الخشنة , إنما تشكل ركنا هاما ورئيسيا في في قوام التفكير السليم السديد.
- الركن الثالث والأخير في التفكير السليم فهو تناول الموضوعات المناسبة للمقام وتفضيل الأهم على المهم , والأفيد على الأقل فائدة , والمباشر على غير المباشر . وعلى الرغم من أن التفكير يجب أن يتجسد في كلمات أو تصرفات , أو باختصار يجب أن يخرج من الحدود الداخلية للمرء إلى حدود الآخرين من حوله, فأننا نعتقد أن تربية التفكير هي الركن الركين لكي يأتي الخارج والتعبير الخارجي قويا مستقيما ومؤثرا , وجالبا الثناء للشخصية وحب الناس للمرء .
فالكلام والسلوك يمكن أن يؤديا بكفاءة تعبيرية عالية , ولكن الأساس فيهما قد يكون واهيا أو مختلا , فقد تجد الخطيب المفوه وقد امتلأ لسانه بالبلاغة والقدرة على التلاعب بالألفاظ وتقديم صور بيانية رائعة , ولكنك تدرك وأنت تستمع إليه أن دخيلته الفكرية خاوية من المضمون الثقافي , وان جهاز تفكيره لا يعمل على مستوى يرقى إلى مستوى بلاغته . فمن الممكن إذن أن يكون الكلام قويا ورائعا , بينما يكون الفكر ضئيلا وخافتا او حتى متناقضا وقبيحا وغير مناسب.
ولسنا لنحط من قدر التمكن من الكلام قولا وكتابة , ولكنا ننعى على الاهتمام بالكلام بدون مضمون يرتكز عليه . ولعلنا بهذه المناسبة نعيب على الضحالة الذهنية التي نشاهدها في الإنتاج الأدبي العربي المعاصر حيث يعتمد أصحاب الأقلام الأدبية في غالبيتهم على الرطانة اللغوية أو على ما يهز المشاعر أو يثير الدهشة وقد ارتكنوا على أساس ثقافي ضعيف , وليس من شك في أن الأديب الذي يعتمد في عمله الأدبي على حصيلة علمية موضوعية وعلى معرفة بالجميل وعلى تقدير للمناسب , إنما يرتكز على ارض صلبة تجعل أدبه راسخا و جديدا وقويا.
والخليق بنا أن نبدأ من أول الخيط فنقول أن على كل إنسان أن يقف على الهيكل العظمي لما توصل إليه العلماء . ولسنا بذلك ندعو إلى أن يكون كل شخص عالما جامعا مانعا لما توصل إليه العلماء في شتى مجالات المعرفة , بل ندعو فقط إلى الوقوف على بسائط العلوم وأولوياتها لا من حيث ما بدأت منه أو ما مرت به من تطورات , بل من حيث ما انتهت إليه مقرراتها . ثمة في الواقع مجموعة من الكتب بهذا بل إن دور النشر الكبرى قد عمدت إلى شيء من ذلك فيما تصدره من كتب أو كتيبات يتناول كل كتاب أو كتيب منها علما أو فرعا من علم , ويقدم إلى قارئه إلمامة سريعة حول ما انتهى إليه العلماء بصدده بغير دخول في تفاصيل أو معادلات رياضية او تعقيدات تقنية . وثمة من جهة أخرى كتب على اكبر جانب من الأهمية تتناول مشكلة من المشكلات أو وقعا حضاريا خطيرا ويشترك مجموعة من العلماء في تأليفها بأسلوب مبسط وشائق . فإذا ما قرأ المرء كتابا من هذا القبيل يكون قد وقف على الخطوط العريضة في أنحاء علمية متباينة , من تلك الكتب ما قام المؤلف بالمشاركة في ترجمته إلى اللغة العربية وقد أحس في أثناء الترجمة وبعد صدورها أنها جديرة بالقراءة وإعادة القراءة لدرجة الاستيعاب لما لها من أهمية عظمى في وقف المرء على الواقع العلمي المعاصر , فيصير بمداومة القراءة فيها طافيا على سطح عالمنا المعاصر بغير أن يقذفه التيار العلمي المتدفق إلى ناحية بعيدة يحس فيها بالاغتراب والنفي والحرمان من المعاصرة . من تلك الكتب كتاب ( انه عالم واحد ) وكتاب ( الإنسان التكنولوجي ) .
هذا بالنسبة لتثقيف المرء بوقفه على الحقائق المتعلقة بالعالم الخارجي , سواء كان عالما طبيعيا أم عالما اجتماعيا . إما بالنسبة للتثقيف الداخلي , فأننا نرى لذلك ثلاثة نوعيات أساسية : الأول الكتب الدينية والروحية . وإذا اتسع الوقت فلا مانع من التوسع في قراءات روحية في غير دينك كأن تقرأ القرآن إذا كنت مسيحيا , وان تقرا التوراة و الإنجيل إذا كنت مسلما , بل وان تقرأ في الديانات القديمة والمعاصرة فلدى الهنود وعن ديانتهم ما يزيد من ثقافتك ويوسع أفقك الداخلي . أما النوع الثاني فهو الكتب النفسية , ومن تلك الكتب ما انت بصدده الآن وأنت تقرأ هذا الكتاب . وكتب علم النفس بوجه عام تساعدك على فهم نفسك وفهم الآخرين في نفس الوقت , أما النوع الثالث والأخير فهو كتب المنطق وهي على قلتها بالسوق تشكل ركنا هاما في تدريب المرء على التفكير السليم , بل إنها تخلصه من النزعة الإنشائية وتشعره بمسئولية الكلمة تقال أو تكتب , فيأتي كلامه على قد فكره بغير حشو أو تزيد .
هذا بالنسبة للتفكير الداخلي , وقد بدأنا حديثنا بما يتعلق بالموضوع الخارجي . وحري بنا أن نتناول بعد هذا ما يتعلق بالجمال في تفكيرنا , فأن هذا لا يعني انه قوام منفصل عن الصحيح في التفكير , بل إن الصحيح والجميل والمناسب بمثابة ثلاثة أوجه لشيء واحد وهو التفكير السليم . ولكن الذي يدفعنا إلى التخصيص هو محاولة وصف كل جانب بأكثر دقة وتفصيلا . فالعالم المحيط بنا يتضمن الوردة الجميلة والنغمة الحلوة والحركة الرشيقة والنسب التي تبعث على الارتياح وهي جميعا موضوعات خارجية يمكن تناولها من حيث هي حقائق فيزيائية . فعالم النبات مثلا يتناول الوردة من حيث مقوماتها , بينما يتناول الشاعر بطريقة أخرى إدراكه لها لا من حيث حقائقها المتعلقة بها , بل من حيث مشاعره تجاهها . والشاعر يفكر بالوردة ولا يشعر فقط وجدانيا بوجودها . ولكن تفكيره يمكن أن يوصف بأنه تفكير جمالي , وهذا اللون من التفكير هام في حياتنا أهمية تفكير عالم النبات وخليق بك أن لا تطفئ هذا النوع من التفكير الشاعري في عقلك مكتفيا بالتفكير الموضوعي , فعالم النبات يجب أيضا أن يحس بجمال الوردة , كما أن الشاعر يجب أن يكون هو الآخر عارفا بمقومات الوردة , أما بالنسبة للمناسب من الأفكار فـأنه يشكل السياسة التي تقود بها فكرك . فإذا كنت ممن يتركون الحبل على الغارب لفكرهم يفكر في أي شيء بغير ترتيب أو نظام , فأنت إذا داعية إلى الفوضى الفكرية , أما إذا كنت ممن يؤمنون بضرورة إتباع سياسة فكرية محددة الملامح , فأنك تكون إذا كمن يسير في البحر ومعه البوصلة والخرائط البحرية التي توجه باخرته سواء السبيل . وحتى بالنسبة لكبار الفلاسفة والشعراء والقصاصين والعلماء الذين يبدون وكأنهم يسبحون بغير هاد يهديهم , فأنهم بالواقع ملتزمون بخطة ويتبعون في حياتهم الفكرية سياسة مرسومة بدقة تامة لا يشيحون عنها ولا ينبون عن التذرع بها و فعليك بأتباع سياسة فكرية في حياتك
ضع لنفسك خطة
فكر بنظام وميز بين الأهم والمهم فيما تفكر فيه , وهذا يستتبع أيضا ضرورة انتهاج سياسة مرسومة فيما تضطلع بقراءته وبحثه , فلا تكن كمن يسبح في الماء بغير تطلع إلى هدف يسبح نحوه , ولا تكن كمن تاه في الصحراء وفقد طريقه , فهو يسير ويسير ويترك أمره للصدف الحسنة . فإذا لم توجه فكرك وفق ما تراه مناسبا لك ولما جبلت عليه من ميول ومواهب فكرية , فلن تجد من ينقذك من التيه ويأخذ بيدك نحو ما يصلح لك . فأنت ربان سفينة فكرك والمسؤولية تقع برمتها على عاتقك في توجيه دفة تلك السفينة , فان فعلت ذلك وأحسست بالمسؤولية واستكشفت الحق والجمال فانك سوف تحقق شيئا مذكورا في حياتك ومن ثم تحظى بإعجاب الناس من حولك بك وتصير شخصية أثيرة لهم تستولي على قلوبهم بالحب والإعجاب .