فإن من عظيم نعمة الله على عباده المؤمنين أن هيأ لهم أبواباً من البر
والخير والإحسان عديدة , يقوم بها العبد الموفق في هذه الحياة , ويجري
ثوابها عليه بعد الممات , فأهل القبور في قبورهم مرتهنون , وعن الأعمال
منقطعون , وعلى ما قدموا في حياتهم محاسبون ومجزيون , وبينما هذا الموفق في
قبره الحسنات عليه متوالية , والأجور والأفضال عليه متتالية , ينتقل من
دار العمل , ولا ينقطع عنه الثواب , تزداد درجاته , وتتناما حسناته وتتضاعف
أجوره وهو في قبره , فما أكرمها من حال , وما أجمله وأطيبه من مآلٍ .
وقد
ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً سبعة ً يجري ثوابها على الإنسان في
قبره بعد ما يموت , وذلك فيما رواه البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( سبع يجري للعبد أجرهن
وهو في قبره بعد موته :من عَلّم علماً, أو أجرى نهراً , أو حفر بئراً , أو
غرس نخلاً , أو بنى مسجداً , أو ورّث مصحفاً , أو ترك ولداً يستغفر له بعد
موته )) [ حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم :3596].
وتأمل
أخي المسلم – ملياً هذه الأعمال , واحرص على أن يكون لك منها حظ ونصيب
مادمت في دار الإمهال , وبادر إليها أشد المبادرة قبل أن تنقضي الأعمار
وتتصرم الآجال .
وإليك بعض البيان والإيضاح لهذه الأعمال :
أولاً :
تعليم العلم , والمراد بالعلم هنا العلم النافع الذي يبصر الناس بدينهم ,
ويعرفهم بربهم ومعبودهم , ويهديه إلى صراطه المستقيم , العلم الذي به يعرف
الهدى من الضلال , والحق من الباطل والحلال من الحرام , وهنا يتبينُ عظمُ
فضلِ العلماء الناصحين والدعاة المخلصين , الذين هم في الحقيقة سراج العباد
, ومنار البلاد , وقوام الأمة , وينابيع الحكمة , حياتهم غنيمة , وموتهم
مصيبة , فهم يعلمون الجاهل , ويذكرون الغافل , ويرشدون الضال , لا يتوقع
لهم بائقة , ولا يخاف منهم غائلة , وعندما يموت الواحد منهم تبقى علومه بين
الناس موروثة , ومؤلفاته وأقواله بينهم متداولة , منها يفيدون , وعنها
يأخذون , وهو في قبره تتوالى عليه الأجور , ويتتابع عليه الثواب , وقديماً
كانوا يقولون يموت العالم ويبقى كتابه , بينما الآن حتى صوت العالم يبقى
مسجلاً في الأشرطة المشتملة على دروسه العلمية , ومحاضراته النافعة , وخطبه
القيمة فينتفع به أجيال لم يعاصروه ولم يكتب لهم لٌقِيُّه . ومن يساهم في
طباعة الكتب النافعة , ونشر المؤلفات المفيدة , وتوزيع الأشرطة العلمية
والدعوية فله حظ وافر من ذلك الأجر إن شاء الله .
ثانياً : اجراءُ
النهر , والمراد شق جداول الماء من العيون والأنهار لكي تصل المياه إلى
أماكن الناس ومزارعهم , فيرتوي الناس , وتسقى الزروع , وتشرب الماشية , وكم
في مثل هذا العمل الجليل والتصرف النبيل من الإحسان إلى الناس , والتنفيس
عنهم بتيسير حصول الماء الذي به تكون الحياة , بل هو أهم مقوماتها , ويلتحق
بهذا مد الماء عبر الأنابيب إلى أماكن الناس , وكذلك وضع برادات الماء في
طرقهم ومواطن حاجاتهم .
ثالثاً : حفر الآبار , وهو نظير ما سبق وقد
جاء في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما رجل في طريق فاشتد
عليه العطش , فوجد بئراً فنزل فيها فشرب , ثم خرج , فإذا كلب يلهث يأكل
الثرى من العطش , فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان
بلغ مني , فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب , فشكر الله له فغفر له ,
قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً ؟ فقال : في كل ذات كبدٍ رطبة
ٍ أجرٌ " متفق عليه . فكيف إذاً بمن حفر البئر وتسبب في وجودها حتى ارتوا
منها خلقٌ , وانتفع بها كثيرون .
رابعاً : غرس النخل , ومن المعلوم
أن النخل سيد الأشجار وأفضلها وأنفعها وأكثرها عائدة على الناس , فمن غرس
نخلاً وسبل ثمره للمسلمين فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم , وكلما
انتفع بنخله منتفع من إنسان ٍأو حيوان ٍ, وهكذا الشأن في غرس كلما ينفع
الناس من الأشجار , وإنما خص النخل هنا بالذكر لفضله وتميزه .
خامساً
: بناء المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله , والتي أذن الله جلا وعلا أن
ترفع ويذكر فيها اسمه , وإذا بُني المسجد أقيمت فيه الصلاة , وتُلي فيه
القرآن , وذكر فيه الله , ونشر فيه العلم , واجتمع فيه المسلمون , إلى غير
ذلك من المصالح العظيمة , ولبانيه أجرٌ في ذلك كلِّه , وقد ثبت في الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله
بنى الله له بيتاً في الجنة " متفق عليه .
سادساً : توريث المصحف ,
وذلك يكون بطباعة المصاحف أو شرائها ووقفها في المساجد , ودور العلم حتى
يستفيد منها المسلمون , ولواقفها أجرٌ عظيم ٌ كلما تلا في ذلك المصحف تالٍ ,
وكلما تدبر فيه متدبر , وكلما عمل بما فيه عامل .
سابعاً : تربية
الأبناء , وحسن تأديبهم , والحرص على تنشأتهم على التقوى والصلاح , حتى
يكونوا أبناء بررة ً وأولاد صالحين , فيدعون لأبويهم بالخير , ويسألون الله
لهما الرحمة والمغفرة , فإن هذا مما ينتفع به الميت في قبره .
وقد
ورد في الباب في معنى الحديث المتقدم مارواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مما يلحق المؤمن
من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره , وولداً صالحاً تركه , ومصحفاً
ورثه أو مسجداً بناه , أو بيتاً لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو
صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته " [ حسنه الألباني
رحمه الله في صحيح ابن ماجه برقم 198 ]
وروى أحمد والطبراني عن أبي
أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم " أربعة تجري عليهم
أجورهم بعد الموت : من مات مرابطاً في سبيل الله , ومن علّم علماً أجرى له
عمله ما عمل به , ومن تصدق بصدقة فأجرها يجري له ما وجدت , ورجل ترك ولداً
صالحاً فهو يدعو له "[ وانظر صحيح الجامع حديث رقم 890 ] .
وفي صحيح
مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جاريةٍ , أو علم ينتفع به
أو ولدٍ صالح يدعو له " وقد فسر جماعةُ من أهل العلم الصدقة الجارية بأنها
الأوقاف , وهي أن يحبس الأصل وتسبل منفعته , وجل الخصال المتقدمة داخلةً
في الصدقة الجارية .
وقوله : " أو بيتاً لابن السبيل بناه " فيه فضل
بناء الدور ووقفها لينتفع بها المسلمون سواءً ابن السبيل أو طلاب العلم ,
أو الأيتام , أو الأرامل , أو الفقراء والمساكين . وكم في هذا من الخير
والإحسان .
وقد تحصل بما تقدم جملةً من الأعمال المباركة إذا قام
بها العبد في حياته جرى له ثوابها بعد الممات , وقد نظمها السيوطي في أبيات
فقال :
إذا مات ابن آدم ليس يجري *** عليه من فعال غير عشرِ
علومٌ بثها , ودعاء نَجْلِ *** وغرس النخل , والصدقات تجري
وراثةٌ مصحفٍ , ورباط ثغر *** وحفر البئر , أو اجراءُ نهرِ
وبيتٌ للغريب بناه يأوي *** إليه , أو بناءُ محلِ ذكر ِ
وقوله
: " ورباط ثغر " شاهده حديث أبي أمامة المتقدم , وما رواه مسلم في صحيحه
من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله
الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه , وأمن الفّتَّان " أي ينمو له عمله إلى
يوم القيامة , ويأمن من فتنة القبر .
ونسأل الله جل وعلا أن يوفقنا
لكل خير , وأن يعيننا على القيام بأبواب الإحسان , وأن يهدينا سواء السبيل ,
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-