السؤال : نشأت في بيئة محطمة ، بين والداي ، حيث كبرت ولم يعطوني من حنان الوالدين شيئا ، وأسلوبهم بالتربية معي كان قاسيا ومحطما ، والآن ليس لدي طموح ، وأشعر بضيقة صدر غالبا ، والتفاؤل عندي ضعيف جدا ، وكلما حاولت أن أبني لي طموحا ، وأتفاءل يتراجع وينهدم ، فكيف أبني في التفاؤل وأثبته كي لا يتراجع ؟ وكيف أعيد الثقة في نفسي ؟ وكيف أذهب عني ضيقة الصدر التي أعاني منها كثيرا ، مع العلم أني حافظ لكتاب الله ؟ فكيف أوظف هذا الحفظ لأبني نفسي ؟ .
الجواب : الحمد لله
أولا : نسأل الله تعالى أن يفرج كربك ، وأن يمتعك متاعا حسنا ، وأن يحبب إليك الإيمان ويزينه في قلبك ، وأن يكره إليك الكفر والفسوق والعصيان .
وبما أنك من حفظة كتاب الله تعالى فإن الخطب سهل ، وأنت تملك مفتاح حلول مشكلات العالم بأسره ، ولن يعجزك حل ما أنت فيه من كرب ، وجلاء ما بك من هم .
وسيكون حديثنا معك في مسألتين : الأولى : علاج الهموم ، وضيق الصدر ، والثانية : بناء التفاؤل ، والثقة بالنفس .
ثانيا : أما علاج ضيق الصدر ، وإزالة الغموم والهموم فلا حل لهذه المعاناة إلا باللجوء إلى الأدوية الربانية الشرعية ، ولا يزال المسلم يبتلى من ربه تعالى بالهم ، والغم ، والحزن ، والمؤمن العاقل هو من يعلم أن في هذا التقدير أحد أمرين :
الأول : أن يكون ذلك عقوبة على معاص يرتكبها ، وآثام يفعلها ، وإنما يقدر الله تعالى عليه ذلك حتى يرجع ، ويتوب ، ويدع ما هو فيه من فعل للسيئات ، وترك للواجبات .
والثاني : أن يكون ذلك ابتلاء لرفع الدرجات ، وتكفير السيئات ، وليس أمام المؤمن ما يفعله هنا إلا الصبر ، والاحتساب ، والحرص على إزالة تلك الهموم والغموم بمزيد من الطاعة ، وكثير من العمل الصالح .
ولن نطيل معك في هذا الباب ، فقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وسائل كثيرة يمكن للمؤمن أن يستعين بها لحياة قلب سعيدة ، وسعادة نفس فسيحة ، وقد جمع الشيخ رحمه الله هذه الوسائل في رسالة لطيفة سماها " الوسائل المفيدة للحياة السعيدة " ، وقد قال في مقدمتها :
" فإن راحة القلب ، وطمأنينته ، وسروره ، وزوال همومه ، وغمومه : هو المطلب لكل أحد ، وبه تحصل الحياة الطيبة ، ويتم السرور ، والابتهاج ، ولذلك أسباب دينية ، وأسباب طبيعية ، وأسباب عملية ، ولا يمكن اجتماعها كلها إلا للمؤمنين ، وأما من سواهم : فإنها وإن حصلت لهم من وجه وسبب ، يجاهد عقلاؤهم عليه : فاتتهم من وجوه أنفع ، وأثبت ، وأحسن حالا ، ومآلا .
ولكني سأذكر برسالتي هذه ما يحضرني من الأسباب لهذا المطلب الأعلى ، الذي يسعى له كل أحد .
فمنهم من أصاب كثيرا منها فعاش عيشة هنيئة ، وحيى حياة طيبة ، ومنهم من أخفق فيها كلها فعاش عيشة الشقاء ، وحيي حياة التعساء ، ومنهم من هو بين بين ، بحسب ما وفق له ، والله الموفق ، المستعان به على كل خير ، وعلى دفع كل شر " .
انتهى
وإذا رمت الاطلاع على هذه الوسائل كاملة : فاقرأها هنا :
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=114وإن أردت ما وصفه الإمام ابن القيم رحمه الله لعلاج هذه الأدواء : فانظر جواب السؤال (22704) في موقعنا هذا ، وفي الجواب نفسه رابط يوصلك لكتاب " علاج الهموم " .
وانظر جواب السؤال رقم : (30901) ففيه إجابة لشاب مستقيم يعاني من تسلط الهم والضيق.
وبما ذكرناه لك ، وأحلناك عليه : يتم الجواب ، ويكتمل البناء ، ولم يبق لك إلا الدخول فيه ، وتطبيق ما تقرؤه على أرض واقعك .
ثالثا : أما بخصوص بناء الثقة ، والتفاؤل في هذه الحياة : فمثلك من حفظة كتاب الله هو من ينبغي أن يدل الناس على ما يفعلونه من أجل ذلك ، ففي صدرك الشفاء ، وبين يديك العلاج ، لا لهذه الأدواء فقط ، بل لكل أدواء الدنيا ، فكتاب الله تعالى ليس للمسلمين فحسب ، بل هو هدى للناس ، ودلالة للعالمين .
وقد جاء في السنة النبوية ما يبين بجلاء أن الإسلام راعى جانب غرس الثقة في نفوس أهل الإسلام منذ الصغر ، ورباهم على الرجولة ، وبناء الشخصية منذ نعومة أظفارهم ، ونضرب لذلك مثلين :
الأول :
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب وعن يمينه غلام ، هو أحدث القوم ، والأشياخ عن يساره قال : (يا غلام أتأذن لي أن أعطى الأشياخ ؟) ، فقال : ما كنت لأوثر بنصيبى منك أحدا يا رسول الله ، فأعطاه إياه . رواه البخاري (2237) ومسلم (2030) .
فالغلام هنا – وهو ابن عباس – صاحب حق في أن يشرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه عن يمينه ، فاستأذنه النبي صلى الله عليه وسلم في أن يؤثر بنصيبه غيره ، فلم يأذن ! لأنه صاحب قرار ، والحق له ، فقرر أن لا يؤثر أحدا على نصيبه ، وهذا لا شك مما يسهم في بناء شخصية الطفل ، ويغرس فيه الثقة .
والثاني :
عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال : كان يمر بنا الركبان ، فنسألهم : ما للناس ؟! ما للناس ؟! ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله أرسله أوحى إليه ، أو : أوحى الله بكذا ، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري ، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق ، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم ، وبدر أبي قومي بإسلامهم ، فلما قدم قال : جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا ، فقال : صلوا صلاة كذا في حين كذا ، وصلوا صلاة كذا في حين كذا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآنا ، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست - أو سبع سنين - . رواه البخاري (4051) .
وهذه غرس للثقة عظيم في نفس ذلك الطفل ، وتلك تربية عظيمة في الإسلام لأولئك النشء الذين سيكونون في المستقبل بناة لهذا الدين ، ودعاة لهذا الحق .
ونحن – أخي السائل – نشعر معك بالأسى ، والحزن ، والهم والغم ، والذي أصابك بسبب ما فعله أهلك ، لكن هذا ليس هو نهاية الأمر ، بل هي كانت البداية ، وكانت بداية سيئة ، ويحتاج الأمر إلى تقويم ، ومعالجة ، وهذا ما ستفعله أنت ، مستعينا بالله تعالى ، متوكلا عليه وحده لا شريك له ، وفي صدرك كتاب الله ، فلن تجد الأمر إلا سهلا يسيرا ، وسنذكر لك بعض النصائح والوصايا ، ونرجو أن تكون لك نافعة ، ونرجو أن يكون منك تطبيق لما نقوله لك .
1. احرص على تثبيت الإيمان في قلبك ؛ فإن القلب الذي يعمر بالإيمان الثابت فيه من القوة ما يحطم كل ماض أليم ، وشر مستطير ، ويتحطم على هذا القلب القوي الثابت كل ضلال مبين .
2. ابذل من وقتك ما تتعلم به العلم الشرعي النافع ، وانظر لشخصية العلماء كيف هي قوية متينة ، وانظر لطموحهم في طلب العلم كيف هو عال كبير ، فبالعلم تستطيع بناء الثقة في نفسك ، وتكون به طموحا لأن تكون في مصاف العلماء .
ولا تنس العمل بالعلم ، ولا خير فيمن يعلم ولا يعمل ، بل علمه سيكون حجة عليه ، والعلماء العاملون من أكثر الناس انشراحا للصدور ، ومن أكثر الناس طموحا ، فهم يحرصون أشد الحرص على تعليم الناس ، ودعوتهم ، وإيصال الإسلام إلى أقاصي الدنيا .
3. لا تنشغل بماضيك الأليم ، ومزق ورقته ، وتقدم للأمام ، ولا تنظر إلى الوراء ، وكل ذلك نافعك إن شاء الله ، وفي عكسه الضرر والألم ، فما فات لن ينفعك تذكره ، ولا العيش على آلامه ، بل اجعله دافعا لك لأن تعوضه بالأمل ، والطموح ، والحياة الجديدة السعيدة ، واجعله عبرة لك أن تسلك الطريق ذاته مع أولادك .
4. اغفر لوالديك صنيعهم معك ، وتجاوز عن أخطائهم في حقك ، ولا بد من هذا حتى يكون قلبك أبيض كالثلج ، وحتى لا تجعل للشيطان طريقا إلى قلبك ليبغضك بهم ، وقدر حالهم من الضعف ، والجهل ، حتى تجد لهم أعذارا في فعل ما فعلوه .
واعلم أن الله تعالى أمر ببر والديك والإحسان إليهما ، حتى وإن جاهداك على أن تشرك بالله تعالى .
قال الله تعالى : ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) لقمان / 14 ، 15 .
قال ابن كثير رحمه الله :
أي : إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما ، فلا تقبل منهما ذلك ، ولا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا ، أي : محسنا إليهما .
( واتبع سبيل من أناب إلي ) يعني : المؤمنين .
" تفسير ابن كثير " ( 6 / 337 ) .
5. لا تقارن نفسك بمن هم أحسن منك حالا ، حتى لا تزدري نعمة الله عليك ، وانظر لمن هم دونك ؛ حتى تعلم عظيم فضل الله عليك .
6. اقرأ سيرة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، واتخذه لك قدوة حسنة ، وانظر كيف كانت طفولته مليئة بالآلام ، والأحزان ، فقد ولد فقيرا يتيم الأبوين ، ثم لم يلبث أن مات جده ، ولم يكن هذا مانعا من أن يكون إماما للناس يقود الجيوش ، ويسير السرايا ، ويفتح البلدان ، ويعلم الجاهل ، وينصر المظلوم .
وقد امتن الله تعالى عليه بذلك فقال : (ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث) الضحى/6- 11 .
7. خالط أصحاب الهمم العالية ، وتجنب أصحاب الهمم الدنيئة ، فللصحبة أثرها الحسن والسيئ ، فاحرص على صحبة من ينفعك .
8. تذكر أن الشيطان يحرص أشد الحرص على إحزانك ، وتكدرك ، وتثبيط عزائمك ، فقابل ذلك بقوة اليقين بالله تعالى ، وبالطاعات ، ولا تنس أن تستعيذ بالله دوما من الشيطان الرجيم .
9. أخيرا : الزم الدعاء ، وتحين أوقات الإجابة ، تسأل ربك من فضله العظيم ، وتعوذ به من كل هم ، وغم ، وحزن ، وتسأله أن يوفقك لمعالي الأمور .
والله الموفق