الشكر سمة لأولي الألباب
وردت آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تدعو الناس إلى التفكير في ملكوت الله
والتأمل في مخلوقاته والنظر في آلائه، وأن تلك السمة للشاكرين الذين يشكرون
الله على نعمه، ويشكرون الله على هدايته، ويشكرون الله على أن جعلهم من
أولي الألباب وذوي البصيرة، قال تعالى: ﴿
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي
خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ ﴾ ... [الأعراف: 58].
وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ
أَرَادَ شُكُوراً ﴾ ... [الفرقان: 62].
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ ... [لقمان: 31].
وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴿ 32 ﴾ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ ... [الشورى: 32، 33].
الأنبيــاء يشكــرون الله
الأنبيــاء – عليهم السلام – أسبق الناس إلى كل خير، وأقربهم من كل فضل،
وأعلمهم بعظمة المولى، وفضل الخالق، وقدر العظيم، قليل من عباد الله
الشكور، والأنبياء – عليهم السلام – هم من هذه القلة الشاكرة الطاهرة.
أبو البشر آدم - عليه السلام – وأمهم حواء – عليها السلام -: ﴿ دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ ... [الأعراف: 189].
وفـي أثـر آخــر إسرائيلـي: أن موسى - صلى الله عليه وسلم –
قال: “ يا رب، خلقت آدم بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك،
وعلمته أسماء كل شيء، وفعلت وفعلت، فكيف أطاق شكرك؟ قال الله عز وجل: علم
أن ذلك مني، فكانت معرفته بذلك شكرًا لي “.
نوح - عليه السلام – كان من أعظم الشاكرين، وأحسن الحامدين، قال تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ﴾ ... [الإسراء: 3].
إبراهيم - عليه السلام – قال عنه الله تعالى: ﴿
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ 120 ﴾ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ
إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ... [النحل: 120، 121].
داود - عليه السلام – قال تعالى له: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ ... [سبأ: 13].
ويروى أن داود - عليه السلام – قال: يا رب، كيف أشكرك؟ وشكري لك نعمة عليَّ من عندك تستوجب بها شكرًا، فقال: الآن شكرتني يا داود.
سليمان - عليه السلام – لما كثرت عليه نعم الله، وتعددت آلاؤه، ابتهل إلى ربه قائلا: ﴿
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ ... [النمل: 19].
لقمان - عليه السلام – قال تعالى عنه: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ
الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ ... [لقمان:
12].
وموسى - عليه السلام – قال تعالى له: ﴿
يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي
وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ ...
[الأعراف: 144].وهكذا تتجلى روائع الشكر، وأفانين الثناء في حياة الأنبياء – عليهم السلام - .
وإن الله تعالى أمرهم وأمر الناس جميعًا بالشكر تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ ... [البقرة: 152].
وإنه تعالى قد حث عباده المؤمنين إذا بلغوا أشدهم واستتم بناؤهم، وبلغوا
أربعين سنة أن يبتهلوا إلى الله جلا وعلا سائلينه توفيقهم إلى شكره على
نعمه وحمد على آلائه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ
بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ
صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ... [الأحقاف].
وفي أثر إلهي: يقول الله عز وجل: ( أهلُ ذكري
أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا
أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم،
أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب ).
إمــام الشـاكــريــن
أعظــم النـاس شكـرًا لله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم -،
فهو إمام الشاكرين، وسيد العابدين، لقد امتزج الشكر بأنفاسه، وسار في
عروقه، ورسخ في وجدانه، لبس حلّة الشكر، وارتدى برداء الثناء، ونطق لسانه
بترانيم الشكر وعبقت جوارحه بأريج الثناء، وترجم شكره لله بأعمال زاكية،
وأفعالٍ رائعة، وأقوال ذائعة، قام حتى تفطرت قدماه فقيل له في ذلك: لماذا
تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فلم يزد على الإجابة
الشافية، والعبارة الكافية: ( أفلا أكون عبدًا شكورًا )،
ما أعظم هذا الجواب، وما أجمل العبارة، وما أحسن المعنى، لم يقل أفلا أكون
شكورًا، ولكن أفلا أكون عبدًا شكورًا، إشارة للسامع وتذكيرًا للإنسان
بمقام العبودية، وأن المرء مهما بلغ فإن قيمته ومنزلته في عبوديته لله
وتذلله لمولاه وانطراحه لخالقه.
إن العبوديـة وحـدهــا درجة رفيعة، ورتبة عالية، ومنّة كبيرة تستحق الشكر
العظيم، والثناء الكريم، فضلا عن بقية النعم، وروائع الكرم، وأفانين المنن.
ومما زادني شرفًا وتيهًــا دخولي تحت قولك يا عبادي
فكـدت بأخمصي أطأ الثريا وأن صيـرت أحمد لي نبياً
لقــد اتصـف - صلى الله عليه وآله وسلم – بالصفة التي أحبها له ربه ورضيها له مولاه صفة العبودية: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ﴾ ... [الإسراء:
1]، إن هذه العبارة الموجزة منه - صلى الله عليه وآله وسلم – تحتاج إلى
شرح كبير، وكلام طويل لإعطائها حقها، وتجلية معانيها، وبيان روائع ما فيها (
أفلا أكون عبدًا شكورًا ).
لقــد كان - صلى الله عليه وآله وسلم – يسأل الله دائمًا أن يجعله شاكرًا
لنعمه: ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر
نعمتك وحسن عبادتك )، ومن دعائه: ( رب اجعلني لك شكارًا، لك ذكَّارًا، لك
رهَّابًا ).
وكان - صلى الله عليه وسلم – إذا سرَّ بالأمر، وفرح بالخبر، واستبشر
بالنبأ، فإن أول ما يخطر في ذهنه، وينقدح في فؤاده أن يخر ساجدًا شاكرًا
لله تعالى.
ويقرأ – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى في سورة « ص » عن نبيه داود – عليه السلام – ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص:24] فيسجد ثم يقول: "سجدها داود توبة ونسجدها شكرًا "
اللهم إعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .