تفسير سورة العصر للقرطبى
{1} وَالْعَصْرِ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : " وَالْعَصْر " أَيْ الدَّهْر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس
وَغَيْره . فَالْعَصْر مِثْل الدَّهْر ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
سَبِيل الْهَوَى وَعْر وَبَحْر الْهَوَى غَمْر وَيَوْم الْهَوَى شَهْر
وَشَهْر الْهَوَى دَهْر أَيّ عَصْر أَقْسَمَ اللَّه بِهِ عَزَّ وَجَلَّ ;
لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنْبِيه بِتَصَرُّفِ الْأَحْوَال وَتَبَدُّلهَا ,
وَمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَة عَلَى الصَّانِع . وَقِيلَ : الْعَصْر :
اللَّيْل وَالنَّهَار . قَالَ حُمَيْد بْن ثَوْر : وَلَنْ يَلْبَث
الْعَصْرَانِ : يَوْم وَلَيْلَة إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا
تَيَمَّمَا وَالْعَصْرَانِ أَيْضًا : الْغَدَاة وَالْعَشِيّ . قَالَ :
وَأَمْطُلهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلّنِي وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْن
وَالْأَنْف رَاغِم يَقُول : إِذَا جَاءَنِي أَوَّل النَّهَار وَوَعَدْته
آخِره . وَقِيلَ : إِنَّهُ الْعَشِيّ , وَهُوَ مَا بَيْن زَوَال الشَّمْس
وَغُرُوبهَا ; قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
تَرُوح بِنَا يَا عُمَر قَدْ قَصُرَ الْعَصْر وَفِي الرَّوْحَة الْأُولَى
الْغَنِيمَة وَالْأَجْر وَعَنْ قَتَادَة أَيْضًا : هُوَ آخِر سَاعَة
مِنْ سَاعَات النَّهَار . وَقِيلَ : هُوَ قَسَم بِصَلَاةِ الْعَصْر ,
وَهِيَ الْوُسْطَى ; لِأَنَّهَا أَفْضَل الصَّلَوَات ; قَالَهُ مُقَاتِل .
يُقَال : أُذِّنَ لِلْعَصْرِ , أَيْ لِصَلَاةِ الْعَصْر . وَصَلَّيْت
الْعَصْر ; أَيْ صَلَاة الْعَصْر . وَفِي الْخَبَر الصَّحِيح " الصَّلَاة
الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة "
بَيَانه . وَقِيلَ : هُوَ قَسَم بِعَصْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِفَضْلِهِ بِتَجْدِيدِ النُّبُوَّة فِيهِ . وَقِيلَ
: مَعْنَاهُ وَرَبّ الْعَصْر . الثَّانِيَة : قَالَ مَالِك : مَنْ حَلَفَ
أَلَّا يُكَلِّم رَجُلًا عَصْرًا : لَمْ يُكَلِّمهُ سَنَة . قَالَ اِبْن
الْعَرَبِيّ : إِنَّمَا حَمَلَ مَالِك يَمِين الْحَالِف أَلَّا يُكَلِّم
اِمْرَأً عَصْرًا عَلَى السَّنَة ; لِأَنَّهُ أَكْثَر مَا قِيلَ فِيهِ ,
وَذَلِكَ عَلَى أَصْله فِي تَغْلِيظ الْمَعْنَى فِي الْأَيْمَان . وَقَالَ
الشَّافِعِيّ : يَبَرّ بِسَاعَةٍ ; إِلَّا أَنْ تَكُون لَهُ نِيَّة ,
وَبِهِ أَقُول ; إِلَّا أَنْ يَكُون الْحَالِف عَرَبِيًّا , فَيُقَال لَهُ
: مَا أَرَدْت ؟ فَإِذَا فَسَّرَهُ بِمَا يَحْتَمِلهُ قُبِلَ مِنْهُ ,
إِلَّا أَنْ يَكُون الْأَقَلّ , وَيَجِيء عَلَى مَذْهَب مَالِك أَنْ
يُحْمَل عَلَى مَا يُفَسَّر . وَاَللَّه أَعْلَم .
{2} إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ
هَذَا جَوَاب الْقَسَم . وَالْمُرَاد
بِهِ الْكَافِر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح .
وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْهُ قَالَ : يُرِيد جَمَاعَة مِنْ الْمُشْرِكِينَ :
الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , وَالْعَاص بْن وَائِل , وَالْأَسْوَد بْن
عَبْد الْمُطَّلِب بْن أَسَد بْن عَبْد الْعُزَّى , وَالْأَسْوَد بْن
عَبْد يَغُوث . وَقِيلَ : يَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْس النَّاس . " لَفِي
خُسْر " لَفِي غَبْن . وَقَالَ الْأَخْفَش : هَلَكَة . الْفَرَّاء :
عُقُوبَة ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَكَانَ عَاقِبَة أَمْرهَا
خُسْرًا " [ الطَّلَاق : 9 ] . اِبْن زَيْد : لَفِي شَرّ . وَقِيلَ :
لَفِي نَقْص ; الْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَرُوِيَ عَنْ سَلَّام "
وَالْعَصِر " بِكَسْرِ الصَّاد . وَقَرَأَ الْأَعْرَج وَطَلْحَة وَعِيسَى
الثَّقَفِيّ " خُسْر " بِضَمِّ السِّين . وَرَوَى ذَلِكَ هَارُون عَنْ
أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم . وَالْوَجْه فِيهِمَا الْإِتْبَاع . وَيُقَال :
خُسْر وَخُسُر ; مِثْل عُسْر وَعُسُر . وَكَانَ عَلِيّ يَقْرَؤُهَا "
وَالْعَصْر وَنَوَائِب الدَّهْر , إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر .
وَإِنَّهُ فِيهِ إِلَى آخِر الدَّهْر " . وَقَالَ إِبْرَاهِيم : إِنَّ
الْإِنْسَان إِذَا عُمِّرَ فِي الدُّنْيَا وَهَرِمَ , لَفِي نَقْص وَضَعْف
وَتَرَاجُع ; إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّهُمْ تُكْتَب لَهُمْ
أُجُورهمْ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي حَال شَبَابهمْ ; نَظِيره
قَوْله تَعَالَى : " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي أَحْسَن تَقْوِيم .
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَل سَافِلِينَ " . [ التِّين : 4 - 5 ] . قَالَ :
وَقِرَاءَتنَا " وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر , وَإِنَّهُ
فِي آخِر الدَّهْر " . وَالصَّحِيح مَا عَلَيْهِ الْأُمَّة وَالْمَصَاحِف .
وَقَدْ مَضَى الرَّدّ فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب عَلَى مَنْ خَالَفَ
مُصْحَف عُثْمَان , وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ يُتْلَى ;
فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ .
{3} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
اِسْتِئْنَاء مِنْ الْإِنْسَان ; إِذْ هُوَ بِمَعْنَى النَّاس عَلَى الصَّحِيح . قَوْله تَعَالَى
{3} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
أَيْ أَدَّوْا الْفَرَائِض
الْمُفْتَرَضَة عَلَيْهِمْ ; وَهُمْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ أُبَيّ بْن كَعْب : قَرَأْت عَلَى رَسُول
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالْعَصْر " ثُمَّ قُلْت مَا
تَفْسِيرهَا يَا نَبِيّ اللَّه ؟ قَالَ : " وَالْعَصْر " قَسَم مِنْ
اللَّه , أَقْسَمَ رَبّكُمْ بِآخِرِ النَّهَار : " إِنَّ الْإِنْسَان
لَفِي خُسْر " : أَبُو جَهْل " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا " : أَبُو بَكْر ,
" وَعَمِلُوا الصَّالِحَات " عُمَر . " وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ "
عُثْمَان " وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " عَلِيّ . رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ . وَهَكَذَا خَطَبَ اِبْن عَبَّاس عَلَى الْمِنْبَر
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ .
{3} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
أَيْ تَحَابَّوْا ; أَوْصَى بَعْضهمْ بَعْضًا وَحَثَّ بَعْضهمْ بَعْضًا .
{3} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
أَيْ بِالتَّوْحِيدِ ; كَذَا رَوَى
الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ قَتَادَة : " بِالْحَقِّ " أَيْ
الْقُرْآن . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْحَقّ هُنَا هُوَ اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ .
{3} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
عَلَى طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَالصَّبْر عَنْ مَعَاصِيه وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَاَللَّه أَعْلَم