اختمرت في ذهني فكرة المحاسبة فجأة فتوصلت إلي أن أقرب فكرة للمحاسبة هي
الإعتقاد بأنني منافق وعلي أن أحاسب نفسي علي تقصيري، وعليه كان البحث لي
عن مواقف عدة كي أثبت هذا النفاق وبالتالي أميز هذا الموقف وأقف علي الخطأ
وأدرسه كي أستطيع معالجته، وقفت علي عدم إمكانية الإتيان بمواقف عملية
خارج الإطار النظري ،فلم أحسب نفسي يوما تطلعيا لحد الإستغلال، أو حتي
أملك هذا الطموح الذي يبعدني عن خيرية الوسائل، فبساطتي كإنسان أجبرتني أن
أبحث عن هذا النفاق في حوارات ونقاشات الواقع والإنترنت..
لا أستطيع الجزم به أو التعرف عليه إلا أنني تذكرت تلك الخلافات التي
احتدت بين المسلمين في الآونة الأخيرة سواءا كانت عقدية أو فقهية أو
سياسية، فطبيعة المرحلة يبدو أنها أجبرت العلماء علي الإنصياع لرغبات
الشارع ومن ثم الإهتمام أكثر بالعمل السياسي دونما العمل الفكري وخاصة
التجديدي..بالطبع هذه المعطيات كان لها التأثير الأكبر علي مصادر المعرفة
وتوجهات الناس..فأصبح الفيس بوك والتويتر واليوتيوب أنبياء معصومون وأن كل
أو جُل ما يُنشر ما هو إلا تصوير لواقع محسوس ابتعد عن أعيننا لفترة
ولكننا لم نلحظه.
في طبيعة الخلاف البشري أن يخفي علي الإنسان حقائق عدة كنتيجة طبيعية
لقِصر عقل الإنسان واستحالة وصوله لكمال الإحاطة وبالتالي فكان من الضروري
أن نجد تلك الخلافات وكأنها مسلم بها بين الأخوة..والسؤال هنا هل لو اتضح
عكس ما اعتقدته وأًصريت علي عدم الرضوخ هل سأصبح منافقا؟!..الجواب علي هذا
السؤال أراه ينطلق من إكسيولوجيا الإنسان وفلسفة تصوره للحياه وبالتالي
للدين..فمن الثابت أن عقل الإنسان لن يثبت علي يقين إلا بعد إدراكه وتصوره
ربما يأتي ذلك تِبعا لثقافته أو بيئته ومدي تأثير تلك المُكونات علي عقله
وضميره....
كل إنسان منا يمتلك عقل ورؤية مختلفة عن الآخر، فحتي هؤلاء المتفقين
ستجدهم حتما مختلفون في أمر ما وهذه هي طبيعة بني الإنسان أن تجده علي
خِلاف، فما إذا الذي يجبرني علي عدم الرضوخ بعد ظهور الحقائق وأن الإنسان
في تصوره قاصر وعاجز عن الإدراك الكلي بالمعطيات وبالتالي سيكون عاجزا عن
تمييز النتائج أو حتي الإعتراف بنسبة ضئيلة من الخطأ...
.لو ظهر لي الصواب فما كان من ضميري إلا عاتبني قائلا استيقظ أيها الإنسان
فها أنت كنت علي خطأ فلما لا تحترم إنسانيتك وتعود..قلت له لا فلربما أكون
قاصرا وغير مطلعا وأن الحقيقة غير ذلك..فينهرني ضميري قائلا أيها الآدمي
لقد كرمك الله بالعقل والروح وأن ما توصل إليه عقلك وأدركته حواسك هو حق
إلا أن يظهر غيره..فحتي لو لم يظهر غيره فلا تسير ضد الحق وتحفظ علي ما
أدركته إلا أن يفتح الله عليك وينير بصائرك...
هنا كان خطاب ضميري إلي مقنعا أنني لو لم أؤمن بما أدركته فلا يلزم ذلك
اليقين به بعد شعوري بِقصر إدراكي وفهمي إلي أن يُظهر الله عكس ما رأيته
وأدركته..ولكن هلي أسير في نفس الطريق أو أتوقف عن العمل هنا كان
الإشكال..فرأيت أنه ومن الضروري أنه وطالما لم تظهر لي الحقيقة الأخري
كاملة فعلي أن لا أتوقف عن العمل بما اعتقدت به في السابق..هنا سألت ضميري
لماذا أيها الضمير اعترفت بإدراكي ولم تعترف بيقيني؟!..رد وقال أن يقينك
واقع أسطوري موجود في خيالك حبيس ذهنك..أما إدراكك فهو واقع عملي موجود في
الحقيقة وأنت أيها الإنسان لست مطالبا بالعمل علي أمر خيالك بل علي أمر
واقعك..
هنا كانت الضربة أشد... كان إيماني بفكرتي وتقديسي لها لم يكن إلا جزء من
معركة ذهنية حبيسة لواقع غير موجود، وبالكاد خالفها ضميري ولم تسترح لها
كينونتي ..أيقنت أنني لم أكن في السابق إلا إنسانا منافقا، وأن ضميري قد
انتصر علي في معركته معي، وأنني الآن أصبحت إنسانا...