اللغة
العربية لغة عظيمة، وهي لغة القرآن الكريم، وإن مما يؤسف له ذلك العزوف
الكبير من الناس عامة ومن طلبة العلم خاصة عن تعلم أشرف اللغات التي نزل
بها أشرف الكتب ونطق بها أفضل الرسل، ولا يمكن فهم الدين الخاتم الذي هو
السبيل الوحيد للنجاة إلا بفهم لغة الضاد.
وقد
كان سلف الأمة وقادتها يحرصون على التوعية بأهمية الاهتمام بالعربي لكل
أحد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا العربية فإنها تزيد في
المروءة"(1).
وروى
أبو بكر الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء أن عمر كتب إلى موسى الأشعري
رضي الله عنهما "أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام
"(2)، وعن أبي العالية قال : "كان ابن عباس يعلمنا اللحن" قيل يعلمنا
الصواب وقيل يعلمنا الخطأ لنجتنبه(3)، وعن الحسن البصري أنه سئل : ما تقول
في قوم يتعلمون العربية ؟ قال : "أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم "(4).
وأنشد المبرد:
النحو يبسط من لسان الألكن
والمرء تعظمه إذا لم يلحن
فإذا أردت من العلوم أجلها
فأجلها منها مقيم الألسن(5)
قال الشيخ بكر أبو زيد: والجلالة هنا نسبية إلى علوم الآلة، والله أعلم(6).
وقال
الشعبي:" النحو كالملح في الطعام لا يستغنى عنه(7) وروى أبو نعيم في رياضة
المتعلمين عن ابن شبرمة قال: "زين الرجال النحو وزين النساء الشحم"(8).
وفي
أهمية تعلم اللسان العربي يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله :" فإنّ
اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها
يتميّزون "(9) وقال رحمه الله :" معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية
فرضٌ على الكفاية ، وكان السلف يؤدّبون أولادهم على اللحن ، فنحن مأمورون
أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي ، ونُصلح الألسن
المائلة عنه ، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة ، والاقتداء بالعرب في
خطابها ، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً "(10).
وقال
أيضاً رحمه الله :" اعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ
تأثيراً قويّاً بيّناً ، ويؤثر أيضاً في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من
الصحابةِ والتابعين ، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ ، وأيضاً فإنّ
نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ ، فإنّ فهم الكتاب
والسنّة فرضٌ ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية ، وما لا يتمّ الواجب
إلاّ به فهو واجب"(11).
وليعلم أنه لا سبيل إلى ضبط الدين وفهمه إلا باللسان العربي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه
الله:" فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغاً عنه
الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم
يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من
الدين، وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب
إلى شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار في جميع أمورهم، ولذلك كان أهل بلاد فارس أقرب العجم إلى فهم
الدين لقرب لغتهم من اللغة العربية . ونلاحظ أنه لم ينبغ منهم نابغة في
العلم إلا بعد تعلمه اللسان العربي"(12).وقال الشاطبي رحمه الله:" وعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً أمران:
أحدهما: ألا يتكلم في شيء من ذلك
حتى يكون عربياً أو كالعربي في كونه عارفاً باللسان العربي، بالغاً فيه
مبلغ العرب. قال الشافعي رحمه الله:" فمن جهل هذا من لسانها -وبلسانها نزل
الكتاب وجاءت السنة- فتكلف القول في علمها، تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما
جهل وما لم تثبت معرفته كانت موافقته للصواب -إن وافقه - غير محمودة والله
أعلم، وكان بخطئه غير معذور إذ نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ
والصواب فيها". ثم قال الشاطبي: وما قاله حق، فإن القول في القرآن والسنة
بغير علم تكلف، وقد نهينا عن التكلف، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" حتى إذا
لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا
وأضلوا"(13)، لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله
وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم رجع إلى فهمه الأعجمي وعقله المجرد عن التمسك
بدليل يضل عن الجادة، قال الحسن البصري رحمه الله:" أهلكتهم العجمة
يتأولونه على غير تأويله".
ثانيهما: إذا أشكل عليه شيء فإنه يسأل أهل العربية(14).
تعليم الصغار العربية:
ولما كان الاختلاط بالأعاجم مظنة
لفساد اللسان العربي ، حرص السلف على تقويم ألسنة الصغار من اللحن فقد جاء
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " أنه كان يضرب بنيه على اللحن"(15).
ولم يكن السلف مغفلين لعلوم العربية
عند تعليم أبنائهم بل كانوا يولونه قدراً كبيراً فقد أرسل معاوية رضي الله
عنه إلى دغفل فسأله عن العربية وعن أنساب العرب وسأله عن النجوم فإذا رجل
عالم . قال : " يا دغفل من أين حفظت هذا؟ قال : بلسان سؤول وقلب عقول وإن
آفة العلم النسيان . قال : انطلق بين يديَّ - يعني ابنه يزيد - فعلمه
العربية وأنساب قريش والنجوم وأنساب الناس "(16).
ولما دفع عبدالملك ولده إلى الشعبي
يؤدبهم قال : علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا وحسن شعورهم تشتد رقابهم وجالس
بهم علية الرجال يناقضوهم الكلام(17).
مكانة العربية في ترتيب العلوم لطالب العلم:
نقل الذهبي في السير عن أبي العيناء
قال : أتيت عبد الله بن داود الخريبي فقال: ما جاء بك ؟ قلت: الحديث. قال:
اذهب فتحفظ القرآن. قلت : قد حفظت القرآن. قال: اقرأ واتل عليهم نبأ نوح( 71 )
صلى الله عليه وسلم يونس: 71} فقرأت العشر حتى أنفذته. فقال لي: اذهب الآن
فتعلم الفرائض . قلت: قد تعلمت الصلب والجد والكََََُبَر. قال: فأيما أقرب
إليك ابن أخيك أو عمك؟ قلت: ابن أخي. قال: ولم ؟ قلت: لأن أخي من أبي وعمي
من جدي. قال: اذهب الآن، فتعلم العربية . قلت : قد علمتها قبل هذين، قال:
فلم قال عمر يعني حين طعن يا لَلَّه يا لِلمسلمين ، لم فتح تلك وكسر هذه؟
قلت: فتح تلك اللام على الدعاء ،وكسر هذه على الاستغاثة والاستنصار، فقال:
لو حدثت أحداً لحدثتك(18).
وروى أبو نعيم عن عبد الله بن بريدة
عن أبيه قال "كانوا يؤمرون أو كنا نؤمر أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم
الفرائض ، ثم العربية الحروف الثلاثة ، قال : قلنا : وما الحروف الثلاثة ؟
قال : الجر والرفع والنصب"(19).
العلم باللسان العربي لطالب الفقه والاجتهاد:
أهمية العربية للمجتهد في الفقه:
يشترط في من يريد التفقه في الدين
أن يعلم كل ما يعينه في فهم نصوص الوحيين من علوم النحو والصرف والغريب
والتراكيب العربية. وقد شرطه الجماهير من الأصوليين كالشافعي والغزالي
والجويني والآمدي(20) والقرافي والفتوحي والطوفي والشوكاني وغيرهم(21).
بل نجد ابن حزم رحمه الله يصرح بوجوب تعلم النحو للمفتي(22)، حتى لا يقع في الخطأ وإضلال الناس جراء الفهم السقيم للنصوص.
ومعرفة علوم العربية من الدين لأنه
لا سبيل إلى فهم الوحيين إلا بذلك، قال شيخ الإسلام:" إن نفس اللغة العربية
من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا
بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثم منها ما هو
واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية"(23)، ولذلك حرص الفاروق
رضي الله عنه على هذا الأمر فكان يذكر الصحابة الذين اختلطوا بالأعاجم ألا
يغفلوا علوم العربية، فقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله
عنهما قال:" أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا
القرآن فإنه عربي"(24)، وقال عمر مرة موجهاً الناس:" عليكم بالتفقه في
الدين والتفهم بالعربية وحسن العبارة"(25)، قال شيخ الإسلام :" لأن الدين
فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه الأقوال وفقه
الشريعة هو الطريق إلى فقه الأعمال. وقال الفاروق رضي الله عنه أيضاً:"
تعلموا اللحن والفرائض فإنها من دينكم"(26) وقيل للحسن البصري(27) رحمه
الله: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال:"
نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك"، وقال:"
أهلكتهم العجمة يتأولون القرآن على غير تأويله"(28).
وقد كان كبار الأئمة يعنون بعلوم العربية عناية فائقة ، قال الشافعي رحمه الله : من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم.
وقال أيضاً: لا أسأل عن مسألة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها من قواعد
النحو(29) والجرمي(30) يقول: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه
-رحمه الله(31)، فلما بلغ المبرد هذا الكلام قال: لأن أبا عمر الجرمي كان
صاحب حديث ، فلما عرف كتاب سيبويه تفقه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه
يتعلم منه النظر والتفتيش(32) وقال الشافعي أيضاً: ما أردت بها - يعني علوم
العربية - إلا الاستعانة على الفقه(33).
وقد ذكر بعض العلماء أن معرفة متون
مختصرة في علوم العربية تكفي للمجتهد وفيه ما فيه، قال الشوكاني رحمه الله:
ومن جعل المقدار المحتاج إليه في هذه الفنون هو معرفة مختصر من مختصراتها
أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من
الممارسة لها، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في
البحث، وبصراً في الاستخراج، وبصيرة في حصول مطلوبه. والحاصل أنه لا بد أن
تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة، وكثرة الملازمة لشيوخ هذه الفنون(34).
وليعلم أنه بمقدار التضلع من علوم العربية مع العلوم
الأخرى المشروطة يكون قرب المجتهد من الفهم الصحيح للنصوص، قال الإمام
الشافعي رحمه الله: وما ازداد - أي المتفقه- من العلم باللسان الذي جعله
الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيراً له(35).
وقال الشاطبي رحمه الله: وإذا فرضنا
مبتدئاً في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطاً فهو متوسط
في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإذا انتهى إلى الغاية في
العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة، كما كان فهم الصحابة
وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجةً، فمن لم يبلغ شأوه فقد نقصه من
فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يكن حجة، ولا كان
قوله مقبولاً"(36).
ضرورة التعمق في دراسة لغة العرب لطالب التفسير:
روى أبو عبيد في فضائل القرآن عن
أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "لأن أعرب آية أحب إليّ من أن أحفظ
آية"(37) وذلك لأن فهم الإعراب يعين على فهم المعنى. والقرآن نزل للتدبر
والعمل.
وقال ابن عباس رضي الله عنه:
التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهله
وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله(38) وكان يقول: "إذا
خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب"(39).
ذكر الشافعيِّ أَنّ على الخاصَّة
الّتي تقومُ بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلّم
لسان العرب ولغاتها ، التي بها تمام التوصُّل إلى معرفة ما في الكتاب
والسُّنن والآثار ، وأقاويل المفسّرين من الصحابة والتابعين، من الألفاظ
الغريبة ، والمخاطباتِ العربيّة ، فإنّ من جَهِلَ سعة لسان العرب وكثرة
ألفاظها ، وافتنانها في مذاهبها جَهِلَ جُملَ علم الكتاب ، ومن علمها ،
ووقف على مذاهبها ، وفَهِم ما تأوّله أهل التفسير فيها ، زالت عنه الشبه
الدَّاخلةُ على من جَهِلَ لسانها من ذوي الأهواء والبدع(40).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه
الله :" لا بُدّ في تفسير القرآن والحديث من أن يُعرَف ما يدلّ على مراد
الله ورسوله من الألفاظ ، وكيف يُفهَم كلامُه ، فمعرفة العربية التي
خُوطبنا بها ممّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه ، وكذلك
معرفة دلالة الألفاظ على المعاني ، فإنّ عامّة ضلال أهل البدع كان بهذا
السبب ، فإنّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدّعون أنّه
دالٌّ عليه ، ولا يكون الأمر كذلك "(41).وقال ابن
قيّم الجوزيّة رحمه الله :" وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب ،
فعرف علم اللغة وعلم العربية ، وعلم البيان ، ونظر في أشعار العرب وخطبها
ومقاولاتها في مواطن افتخارها ، ورسائلها ... "(42).
ويحتاج طالب علم التفسير إلى المعرفة بلغات العرب،
إذ من المعلوم أن لكل قبيلة لغتها، وأفصح اللغات لغة قريش إلا أن هناك بعض
الكلمات في القرآن جاءت على غير لغة قريش. فقد أشكل على عمر بن الخطاب رضي
الله عنه معنى قوله تعالى: أو يأخذهم على" تخوف 47 صلى
الله عليه وسلم النحل: 47} فقام في المسجد فسأل عنها فقام إليه رجل من
هذيل فقال معناها:" على تنقص"=أي شيئاً فشيئاً، ودليله قول شاعرنا الهذلي
يصف سرعة ناقته:
تخوف الرحل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النَّبْعة السَّفِن
أي:أخذ الرحل يحتك بسنام الناقة من سرعتها، حتى كاد ينقص كما يبري البحار عود السفينة بالسكين لينقص منها.
وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن معنى:" وفاكهة وأبا"
ما معنى الأبّ؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله ما
لا أعلم". ولأهل الرواية في الأثر كلام.
ولهذا السبب يقول الإمام مالك رحمه الله: لا أوتى
برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً(43) ورحم الله
مالكاً كيف لو رأى زماننا هذا!!.
العلم بالعربية طريق فهم الحديث:
قال ابن الصلاح: وحق على طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يتخلص به من شين اللحن والتحريف ومعرتهما(44).
وروى الخطيب عن شعبة قال: من طلب الحديث ولم يبصر
العربية كمثل رجل عليه برنس وليس له رأس!(45) وروى أيضاً عن حماد بن سلمة
قال: مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة ولا شعير
فيها(46).
فمعرفة العربية شرط في المحدث، قال النووي رحمه
الله:" وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو ما يسلم به من اللحن والتصحيف،
وقد روى الخليلي في الإرشاد عن العباس بن المغيرة عن أبيه قال: جاء
عبدالعزيز الدراوردي في جماعة إلى أبي ليعرضوا عليه كتاباً، فقرأ لهم
الدراوردي، وكان رديء اللسان يلحن، فقال أبي: ويحك يا دراوردي، أنت كنت إلى
إصلاح لسانك قبل النظر في هذا الشأن أحوج منك إلى غير ذلك(47).
ويقول الحافظ أبو الحجّاج يوسف ابن الزكي المِزِّي
(ت742ه) في مقدمة كتابه " تهذيب الكمال في أسماء الرجال" : "ينبغي للناظر
في كتابنا هذا أن يكون قد حصل طرفاً صالحاً من علم العربية ، نحوها ولغتها
وتصريفها ،ومن علم الأصول والفروع ، ومن علم الحديث والتواريخ وأيام
الناس".
ذم اللحن بعامة ولطالب العلم بخاصة:
كثرت أقاويل العلماء والمجربين في ذم اللحن. فعن أيوب السختياني رحمه الله أنه كان إذا لحن قال : "أستغفر الله" (48).
وقال الأصمعي رحمه الله:" إن أخوف ما أخاف على طالب
العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: "من
كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، لأنه لم يكن يلحن. فمهما رويت
عنه ولحنت فيه كذبت عليه.وروى الخطيب البغدادي أن علياً وابن عباس وابن عمر
رضي الله عنهم كانوا يضربون أبناءهم على اللحن. ونقل عن الرحبي أنه قال:
سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحَّان ، فكتب عن اللحان لحَّان آخر، فكتب
عن اللحان لحَّان آخر،صار الحديث بالفارسية!!(49).
وقد تحسر ابن فارس(50) رحمه الله على أهل وقته من غفلتهم عن العلوم
العربية وانشغالهم عنها فقال ابن فارس رحمه الله : وقد كان الناس قديماً
يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرأونه اجتنابهم بعض الذنوب، فأما الآن فقد
تجوزوا حتى إن المحدث يحدث فيلحن والفقيه يؤلف فيلحن فإذا نبها قالا: ما
ندري ما الإعراب وإنما نحن محدثون وفقهاء فهما يسران بما يساء به اللبيب.
ولقد كلمت بعض من يذهب بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العليا في
القياس فقلت له: ما حقيقة القياس ومعناه؟ ومن أي شيء هو؟ فقال: ليس علي
هذا، وإنما علي إقامة الدليل على صحته. فقلَّ الآن في رجل يروم إقامة
الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو. ونعوذ بالله من سوء
الاختيار"(51).
وقال العلامة الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في كتابه
القيّم ( حلية طالب العلم ) : احذر اللحن: ابتعد عن اللحن في اللفظ
والكتب، فإن عدم اللحن جلالة، وصفاء ذوق ووقوف على ملاح المعاني لسلامة
المباني(52).
وما أحسن ما قاله الشاعر عبدالرحمن العشماوي في وصف من يلحن في لفظه:
يلقي على المرفوع صخرة جهله
فيصير تحت لسانه مجرورا
وينال من لغة الكتاب تذمرا
منها ويكتب في الفراغ سطورا
ورأيت مبهورا بذلك كله
فرحمت ذاك الجاهل المغرورا
وعلمت أن العقل فينا قسمة
والله قدر أمرنا تقديرا
الجهل باللغة من أسباب الزيغ:
والضعف في علوم العربية سبب ضلالاً في فهم كثير من
المتفقهة . قال ابن جني:" إن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد
عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفُه في هذه اللغة
الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها"(53).
وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في
مسألة خلود أهل الكبائر في النار ، احتج ابن عبيد أن هذا وعد الله والله لا
يخلف وعده- يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر بالنار
والخلود فيها- فقال ابن العلاء: من العجمة أُتيتَ، هذا وعيد لا وعد، قال
الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(54)
ومن أمثلة التفاسير الخاطئة المبنية على الجهل
بالعربية قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع حرائر مستدلاً بقوله تعالى:"
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" فالمجموع تسع نسوة، قال
الشاطبي: ولم يشعر بمعنى فُعال ومفعل وأن معنى الآية: فانكحوا إن شئتم
اثنتين اثنتين أو ثلاثاً ثلاثاً أو أربعاً أربعاً.
ومن ذلك قول من قال إن المحرم من الخنزير إنما هو
اللحم، وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم، ولو عرف أن
اللحم يطلق على الشحم بخلاف الشحم فلا يطلق على اللحم لما قال ما قال(55).
ومن ذلك قول من قال في حديث:" لا تسبوا الدهر فإن
الله هو الدهر، يقلب الليل والنهار"، بأن فيه مذهب الدهرية وهذا جهل ، فإن
المعنى لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم مصائب ولا تنسبوها إليه فإن الله هو
الذي أصابكم فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر(56).
قال الشاطبي رحمه الله: فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف
يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ،
وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، والصحابة رضوان الله عليهم براء
من ذلك لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم.
ثم من جاء بعدهم ممن هو ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه(57).