جاء في شرح بن يعيش("اعلم أن الإعراب في
اللغة البيان يقال : أعرب عن حاجته إذا أبان عنها... و الإعراب الإبانة عن
المعاني باختلاف أواخر الكلم لتعاقب العوامل في أولها ألا ترى أنك لو قلت :
ضرب زيد عمرو بالسكون من غير إعراب لم تعلم الفاعل من المفعول؟ ولو اقتصر
في البيان على حفظ المرتبة فيعلم الفاعل بتقدمه و المفعول بتأخره لضاق
المهذب ولم يوجد من الاتساع بالتقديم والتأخير ما يوجد بوجود الإعراب ألا
ترى أنك تقول : "ضرب زيد عمرا" ، و "أكرم أخاك أبوك" ، فيعلم الفاعل برفعه ،
و المفعول بنصبه سواء تقدم أو تأخر فإن قيل فأنت تقول : "ضرب هذا هذا" ، و
"أكرم عيسى موسى" وتقتصر في البيان على المرتبة قيل هذا شيء قادت إليه
الضرورة لتعذر ظهور الإعراب فيهما ولو ظهر الاعراب فيها أو في أحدهما أو
وجدت قرينة معنوية أو لفظية جاز الاتساع بالتقديم والتأخير نحو:" ضرب عيسى
زيد" فظهور الرفع في "زيد" عرفك أن عيسى مفعول
من خلال هذا التعريف يظهر لنا أن انفتاح المعاني في التراكيب و العبارات قد
يرجع إلى ما يستدعيه نظامها التركيبي من العلامات الإعرابية المختلفة وذلك
في ضوء ما تنفتح عليه الأبنية النحوية للجملة العربية من مختلف التقديرات و
الوجوه الاحتمالية إن على المستوى التركيبي أو الاستبدالي وفي ضوء ما
تتحلى به تلك الأبنية من مرونة في التركيب يسبب التقديم والتأخير ، و إن في
ذلك من المرونة و التوسع ما يمكن المتكلم من التعبير عن مختلف المعاني
التي يريدها و الأغراض و الحا و نجات التي يقصدها ، واللغة العربية إنما
وجدت للتعبير عن المعاني فما كان أكثر دقة في التعبير عنها وأكثر اتساعا
وشمولا في الدلالة عليها كان أمثل و أحسن ، و لا شك أن الإعراب في العربية
يؤدي ما لا تؤديه اللغات المبنية من دقة في المعاني واتساع فيها .
ولنبين أثر الحركة الإعرابية في انفتاح الكلام وتوجيه معانيه نستعرض أمثلة
عن بعض الجمل الاسمية محاولين قدر الامكان تحليلها دلاليا على أساس العلامة
الإعرابية باختلاف أواخر الكلم
فلو قلنا :" هذا رطبا أطيبَ منه بسرا" ، و"هذا رطبٌ أطيبُ منه بسرٌ" ،
فإننا لا نجد في هذين المثالين من الفرق في المبني إلا ما كان من تغير في
حركتي الباء من "رطب " والراء من "بسر" ، لكنه فرق ينجم عنه تغيير واضح في
المعنى ففي الأولى أنت تخبر عن شيء واحد في الحالتين ، و في الثانية أنت
تخبر عن شيئين ، والمعنى : "هذا رطب غير أن هناك بسرا أطيب منه".
وفي قولنا : " إن زيدا نائم ومريض بالقلب " ، و "إن زيدا نائم ومريضا
بالقلب" ، ففي الأولى نحن نخبر عن زيد بأنه نائم ، ومريض بالقلب كذلك ، أما
في الثانية نحن نخبر عن زيد أنه نائم ، و نخبر عن شخص مريض بالقلب أنه
نائم أيضا .
ولننظر إلى ما يمنحه الإعراب من دقة في المعاني وبلاغة في البيان إلى
التعبير القرآني في قوله تعالى : [وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ
مُبِينٍ ] {يس12}. فإن المعنى برفع "كل" يحتمل أن كل شيء في إمام مبين ،
ويحتمل أن يكون "أحصيناه" صفة لـ"شيء" و الجار والمجرور خبر، فيكون المعنى
أن الشيء الذي أحصيناه هو في إمام مبين ، ويحتمل على هذا التقدير أن ما لم
يحصه ليس في إمام مبين ، ويكون المعنى على هذا أنه أحصى أشياء و أشياء أخرى
لم يحصها وأما التعبير بنصب "كل" لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو "إنا أحصينا
كل شيء في إمام مبين" ، ولم يقلها بالرفع لئلا يقع في النفس الاحتمال
الآخر.
ونحو قوله تعالى:[ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ]{القمر49}
فجاءت الآية بنصب "كل" احتياطا للمعنى و تثبيتا له في النفس ، ولم يقلها
بالرفع لئلا يقع فيها احتمال آخر، وهو أن الشيء الذي خلقناه إنما هو بقدر ،
وأما الشيء الذي لم يخلقه فمسكوت عنه ، فيؤدي ذلك إلى أن ثمة أشياء لم
يخلقها هو، وإنما خلقها غيره تعالى الله عن ذلك.
والإعراب يتيح للمتكلم فسحة في التعبير وذلك لما له من أثر في تأويل
المعاني وتوجيهها، إذ يمكن للمتكلم أن يعدل من معنى إلى معنى آخر بقلب حركة
اللفظ من ضم إلى فتح أو غيرها ومن ذلك ما يروىٍ عن عتبان الحروري في قوله :
فان يك منكم كان مروان وابنه *** وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعـــنب *** ومنا أميرُ المؤمنيـــن شبيب
فانه لما بلغ الشعر هاشما وضفر به قال له :أنت القائل: ومنا أميرُ المؤمنين
شبيب ، فقال له لم اقل كذا وإنما قلت : ومنا أميرَ المؤمنين شبيب . فتخلص
بفتحة الراء بعد ضمها .
وأنت تلاحظ أن فتح الراء من "أمير" أنجاه من هلاك محقق ، وذلك أن المعنى
برفع "أمير" أن شبيبا هو الأمير لا هشاما ، و"منا" خبر مقدم و"أمير" مبتدأ
مؤخر و "شبيب" بدل ، والمعنى بنصب"أمير" أن يكون على النداء أي "منا يا
أميرَ المؤمنين شبيب" ، فهو يقر بأن هشاما أمير المؤمنين وفرقٌ بين
التعبيرين.
ومن ذلك أيضا ما روي عن الكسائي أنه قال: اجتمعت وأبو يوسف القاضي عند
هارون الرشيد ، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول ما النحو؟ فقلت وأردت أن
أعلمه فضل النحو: ما تقول في رجل قال لرجل : أنا قاتلٌ غلامَك ، وقال آخر :
أنا قاتلُ غلامِك ، أيهما كنت تأخذ به ؟ قال آخذهما جميعا فقال له هارون
أخطأت ، وكان له علم بالعربية فاستحيا وقال: كيف ذلك ؟ فقال : الذي يؤخذ
بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامِك بالإضافة لأنه فعل ماض ، فأما
الذي قال أنا قاتلٌ غلامَك بلا إضافة فإنه لا يؤخذ لأنه مستقبل لم يكن بعد