هل أنت أقل من الهدهد؟!
فالهدهد هو الذي سارع ذاتيًّا بدون تكليف إلى اكتشاف وكر الشرك في سبأ: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ} (النمل: 23-24).
فالهدهد يتحول إلى داعية إلى الله ويعرف واجباته وحقوقه، وقد كان يكفيه القيام بمهامه الروتينية؛ إذ لِـمَ يعرّض نفسه لمساءلة سليمان الشديدة التي كادت أن تزهق روحه من جرائها؟
لا يكتفي الهدهد بمجرد الاستخبار ونقل الحدث، بل يعلق ويشرح ويوجه ويعلل ويجادل كأنه المسئول الأول عن هذا الأمر، فيستطرد قائلاً كما حكى القرآن: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ}، ويستنكر قائلاً: {أَلاَّ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، يزيد ربه تنزيهاً: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.
فبعد هذه الآية سجدة تلاوة كأننا نسجد لله تعالى خشية أن ينطبق علينا استنكار الهدهد الشديد الحي اللاذع الذي ينال الغافلين عن الله تعالى، وحسبه أن الله تعالى يسجل همته في القرآن الكريم.
وهذه النملة التي تخشى على إخوانها فتدعوهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم حتى لا يهلكهم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (النمل: 18). والنملة من المخلوقات العجيبة في حركاتها إذا التفتنا إلى معنى اسمها فإنها سميت النملة "لتنملها، وهو كثرة حركاتها وقلة قرارها" القرطبي.
فلا تراها إلا وهي تمشي ليلاً ونهارًا صيفًا وشتاءً ربيعًا وخريفًا، وإن وقفت في الطريق فإنما لتشاور أختًا لها على مواصلة الطريق أو أنها وقعت على صيد جديد؛ فأجدر بكم معشر الدعاة أن تكون حركتكم خيرًا من حركة النمل، ولا تقفوا في منتصف الطريق ولا تترددوا إذا هبت عليكم رياح اليأس.
وهذا يحيى النحوي بلغ نيفاً و40 سنة ولم يتعرض لشيء من العلوم، فيئس من قدرته على
تحصيل العلم. وفيما هو يفكر إذ رأى نملة قد حملت نواة تمرة وهي دائبة تصعد بها فوقعت منها فعادت وأخذتها، ولم تزل تجاهد مراراً حتى بلغت بالمجاهدة غرضها فقال: "إذًا هذا الحيوان الضعيف قد بلغ غرضه بالمجاهدة والمناصبة، فبالأحرى أن أبلغ غرضي بالمجاهدة"، فمضى عزمه وتعلم من حركة النملة، جاء ذلك في ترجمة يحيى النحوي.
وتطبيقاً لهذه الروح، فإن من لم يتجاوز همه وحرصه على مصلحة قومه هَمّ مثل هذه النملة وحرصها على قومها لامرؤ عاجز خوار، بل ليس من المسلمين، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
بل حتى العصافير إذا حاول عصفور صغير الطيران فلم يستطع أو وقع على الأرض اجتمعت العصافير وعلمته كيف يطير وساعدوه على ذلك. وإذا أوذي أحد العصافير صاح؛ فتجتمع جميع العصافير –التي تسمعه– إليه ويخلصونه جميعًا من الأذى ويدافعون عنه، فلا تكن العصافير أفضل منا بعضها لبعض، وإلا فالهلكة الهلكة.
وكثيراً ما تتوالى الفواجع على أمة الإسلام فلا يأبه لها أحد ولا يكترث؛ فالكل –إلا قليل- غافل في ملذاته أو متغافل عن تعمد أو مغفل أغفله عدوه عن هموم أمته، ولعمري لو انتابت هذه الفواجع طوائف الكلاب لثارت جمعيات الرفق بالحيوان، ولسالت دموع الغرب الرحيم الذي يجلب أطباء التجميل للكلاب والقطط ويبتز أموال المغفلين العرب والمسلمين للإنفاق على حدائق الحيوان هنا وهناك، كل ذلك من فرط الرحمة، وإن كان الحيوان المسلم يموت جوعًا في الصومال وغيرها، ولكن يبدو أنه أقل من الحيوانات المعدة للعرض عندهم.
والمسلم –إلا من رحم ربي– يتمتع برصيد من الغفلة قابل للتصدير كما قلنا، والحقيقة أنها غفلة موجهة وليست غفلة عادية، إذا ما قورنت بالتحفز وشحذ الهمم الذي تقوم به الأمة إذا ما أقدمت على مباراة لكرة القدم اشتركنا فيها أم لم نشترك، فلا تكاد تمشي في الشوارع من فرط الزحام كأن أبواب الجنة فتحت في صورة أبواب الإستاد!!
وإن كان هدهد سليمان عليه السلام ممن كانوا يهتمون بأمر الدعوة والدعاة فقد ضرب لنا المثل في جعل الدعوة في المقام الأول من حياته، وهو ما جعله يقف غير هياب ولا وجل {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}. وخاطبه من علٍ لأنه أحرز للدعوة وسجَّل لها ما لم يسجله غيره {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}، متناسياً كل العقوبات التي كان قد توعد بها نبي الله سليمان عليه السلام من قبل.
فالدعوة أهم. وكيف لا وقد بين الأنبياء أن الدعوة أهم من شخوصهم؟ ولذا ضربوا في طول البلاد وعرضها مضحين بأنفسهم وأموالهم في سبيلها.
ونحن نعلم أن رسول الله r أفضل مخلوق، إلا أنه نال هذا الشرف بالدعوة إلى الله والانتساب إليه ولو قصر في الدعوة وأساء إليها لما نال ذلك، بل استحق العقوبة وتغيرت نبرة الكلام الإلهي وجاءه العذاب {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44-47). {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15).
--------------------------------------------------------------------------------