قال تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ومعنى قوله " ألم تر " أي بقلبك يا محمد " إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " أي وجود ربه وذلك أنه أنكر أن يكون إله غيره وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك وذلك أنه يقال إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ولهذا قال " أن أتاه الله الملك" وكان طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه
فقال إبراهيم " ربي الذي يحيي ويميت" أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له . فعند ذلك قال المحاج وهو النمرود " أنا أحيي وأميت " قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل فذلك معنى الإحياء والإماتة والظاهر والله أعلم أنه ما أراد هذا لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه مانع لوجود الصانع وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت "
ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب ؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة قال الله تعالى " والله لا يهدي القوم الظالمين " أي لا يلهمهم حجة ولا برهانا بل حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب
وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه الله بها فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة حتى أهلكه الله بها .
قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم)
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابا منها أنه لما قال لنمرود " ربي الذي يحيي ويميت " أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة فقال " رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " وقوله " قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك " روي عن ابن عباس أنه قال هي الغرنوق والطاوس والديك والحمامة
وقوله " فصرهن إليك " أي وقطعهن ثم جعل على كل جبل منهن جزءا فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءا قيل أربعة أجبل وقيل سبعة قال ابن عباس : وأخذ رءوسهن بيده ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عز وجل فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش والدم إلى الدم واللحم إلى اللحم والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على حدته وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام فإذا قدم له غير رأسه يأباه فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته ولهذا قال " واعلم أن الله عزيز حكيم " أي عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع منه شيء وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره
منقول باختصار من تفسير ابن كثير