مَن الذي يُخشى عليه من سوء الخاتمة؟!
سوء الخاتمة، وما أدراك ما سـوء الخاتمة؟
ـ أعاذنا الله وإياكم منها ـ هي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، والخسارة الفادحة،
والفضيحة النكراء، والداهية العمياء.
مَن مِن المؤمنين العقلاء لا يخشى من سوء الخاتمة، ولا يخاف من الفضيحة العظمى؟
وهو يعلم أن الأعمال بالخواتيم، وأن الخواتيم لا يعلمها إلا علام الغيوب، وقد خافها سيد
الأبرار المعصوم، وخافها السادة الكبار والأئمة الأخيار: أبو بكر وعمر رضي الله
عنهما ومن دونهما الكثير أمثال سفيان الثوري. هذا على سبيل المثال لا الحصر.
كيف لا يخشى المؤمنون العقلاء سوء الخاتمة ويخافونها وقد خوفهم إياها مليكهم
وخالقهم، وخافها رسولهم وحذرهم منها؟
قال تعالى: "وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه " قال مجاهد رحمه الله:
(المعنى يحول بين المرء وعقله، حتى لا يدري ما يصنع، بيانه "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن
كَانَ لَهُ قَلْب" أي عقل. واختار الطبري: أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى بأنه أملك
لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا
بمشيئة الله)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدَّعي الإسلام: هذا من
أهل النار. فلما حضر القتال، قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته؛ فجاء
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت الذي تحدثت
عنه أنه من أهل النار؟ قاتل في سبيل الله أشد القتال، فكثرت به الجراح. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين يرتاب، فبينما هو على
ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهما فانتحر بها،
فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله
صَدَّق الله حديثك. قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا بلال: قم فأذن: "لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر")
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن العبد ليعمل عمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة
وإنه من أهل النار"
وعن انس يرفعه عند الترمذي وصححه "إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل: كيف
يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه"
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول:
يا مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك. فقلت: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا
الدعاء، فهل تخشى؟ قال: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع
الجبار إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه"
من الذين يخشى عليهم من سوء الخاتمة؟
سوء الخاتمة إنما تكون لـ:
1. ممارس الأعمال الشركية.
2. مرتكب الكبائر.
3. مقدم على العظائم.
4. متهاون في الواجبات.
5. غافل عن هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم
الأزواج والزوجات.
6. معرض عن التوبة والمكفرات.
7. سادر في غيه إلى وقت الممات.
8. من آثر الفانية على الباقية.
أما من استقام حاله وطهر باطنه، وسلم قلبه من الشبه والشهوات، فالله أكرم أن
يختم له بسوء.
قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي رحمه الله: (واعلم أن لسوء
الخاتمة ـ أعاذنا الله منها ـ أسباباً، ولها طرقاً، وأبواباً، أعظمها الانكباب على الدنيا،
وطلبها، والحرص عليها، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله
عز وجل. وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة، ونوع من المعصية، وجانب
من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه، وسبى عقله، وأطفأ نوره،
وأرسل عليه حُجبه. فلم تنفع فيه تذكرة، ولا تنجع فيه موعظة، فربما جاءه الموت على
ذلك فسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه
الداعي وأعاد قوله.
إلى أن قال: واعلم أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله تعالى منها ـ لا تكون لمن استقام
ظاهره، وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد. وإنما تكون لمن له فساد في
العقيدة وإصرار على الكبيرة، وإقدام على العظيمة. فبما غلب عليه ذلك حتى نزل به
الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوبة، ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان
عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله)
أخطر الموبقات المفضية إلى سوء الخاتمة والندم عند الممات
أخطر الموبقات، وأعظم المنكرات المفضية إلى سوء الخاتمة والندم عند الممات،
بعد الممارسات الشركية هي:
1. إدمان الزنا واللواط.
2. إدمان المسكرات والمخدرات.
3. إيذاء المؤمنين والمؤمنات.
4. حب الملاهي (الغناء، الموسيقى،...الخ).
5. عشق الصور.
6. التهاون بالبدع والمحدثات.
7. أكل الربا والرشا وكل المكاسب المحرمات.
8. إدمان الكذب وشهادة الزور.
عن عثمان رضي الله عنه قال: (اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث. إنه كان رجل ممن كان
قبلكم تعبد، فعلقت به امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنا ندعوك للشهادة،
فانطلق مع جاريتها، فطفقت الجارية كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة
وضيئة، أي جميلة، عندها غلام، وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، لكن
دعوتك لتقع عليَّ، أو تشرب من هذا الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام. فقال: فاسقني من
هذا الخمر، فسقته كأساً، فقال زيدوني فلم يزل يشرب حتى وقع عليها، وقتل الغلام،
فاجتنبوا الخمر، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج
أحدها صاحبه)
نماذج لمن ختم لهم بسوء
سنورد في هذ العجالة نماذج لمن ختم لهم بسوء الخاتمة لعلها أن يكون فيها ذكرى
للذاكرين، وينتفع بها نفر من الغافلين.
نماذج لمن ضل على علم وختم له بسوء
1. إبليس لعنه الله
قال تعالى عنه: "كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ".
فقد كان على قدر من المعرفة بالله ومن الاجتهاد في العبادة حتى أنه كان يجالس
الملائكة ولكنه طغى وتكبر واستنكف عن طاعة الله فكان من الخاسرين.
يقال إنه عبد الله أكثر من ثمانين سنة.
2. قارون لعنه الله
قال الله عنه: "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ
مَفَاتِحَهُ
لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا
تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" إلى
قوله تعالى: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا
كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ".
3. بلعام بن عاوراء
الذي هو إمام لعلماء السوء.
قال تعالى عنه: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ
الْغَاوِينَ*
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن
تَحْمِلْ
عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ* سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ* مَن يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"
قيل كان في حلقتـه أكثر من اثني عشر ألف محبرة لطلاب العلم فسلب كل هذا
وخسر الدنيا والآخرة.
4. برصيصا العابد
الذي قال الله تعالى في حقه: "كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ*
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ* فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ".
5. كثير من أحبار اليهود
الذين كانوا يبشرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فعندما بعث وهاجر إلى المدينة
كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
قال الحافظ بن كثير في هؤلاء وفي برصيصا العابد في تأويل هاتين الآيتين:
(يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين، وقول
المنافقين لهم: "َإِِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ" ثم لما حقت الحقائق، وجدبهم الحصار والقتال تخلوا
عنهم وأسلموهم للهلكة مآلهم في ذلك كمثل الشيطان إذ سول للإنسان ـ والعياذ بالله ـ
الكفر. فإذا دخل في ما سوله له تبرأ منه وتنصل، وقال: "إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ"
وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض بني إسرائيل هي كمثال لهذا المثل، لا لأنها المراد
وحدها بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها.
ثم ذكر ما رواه ابن جرير بسنده إلى علي رضي الله عنه يقول: إن راهباً تعبد ستين
سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها، ولها إخوة، فقال لإخوتها عليكم
بهذا القس فيداويها، قال: فجاءوا بها إليه، وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها، إذ أعجبته
فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها. فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك
أعييتني أنا صنعت هذا بك، فأطعني أنجك مما صنعت بك. فاسجد لي سجدة، فسجد له.
فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فذلك قوله:
" كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ...الآية") .
6. ثعلبة ابن أبي حاطب
الذي كان لا يفارق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه رغب في الدنيا فكانت
سبب ضلاله وغوايته ونفاقه قال تعالى عنه: "وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ
بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ*
فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ
اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ".
كان هذا قبل فرض الزكاة فلما فرضت الزكاة وجاءه مصدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم يطالبه بها قال: ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية.
تنبيه: ليس هذا هو ثعلبة بن حاطب الأنصاري وإنما هذا شخص آخر.
اللهم اختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير،
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها،
وخير أيامنا يوم نلقاك يا ذا الجلال والإكرام
وصلى الله وسلم على محمد وآله وأصحابه وأزواجه
والتابعين لهم بإحسان.