فِي صَيْف أَحَد الْأَعْوَام فَكَّرْت الْأُسْرَة أَن تُسَافِر كَالْعَادَة إِلَى بِلَاد أُوْرُوبَّا .. هَنَاك حَيْث جَمَال الْأَرْض و رَوْعَة الْمَكَان و خُلُو الْرَّقِيْب .. و أَكْثِر مِن هَذَا الْحُرِّيَة الَّتِي تَمْنَحُهَا الْمَرْأَة لِنَفْسِهَا ..
كَانَت هَذِه الْفَتَاة مَع هَذِه الْأُسْرَة تَرْبِط الْأَمْتِعَة وَتَنْظُر إِلَى أَخِيْهَا الْأَكْبَر .. وَتَقُوْل لَه فِي فَرْحَة غَامِرَة وَسَعَادَة كَبِيْرَة : (( أَمَّا هَذِه الْعَبَاءَة و هَذَا الْحِجَاب الَّذِي حَجَبَنِي عَن حُرِّيَّتِي وَعَن مُتْعَتِي فَسَوْف أَرْمِي بِه عُرْض الْحَائِط .. و سَأَتْرُكُهَا لَا حَاجَة لِي بِهَا .. سَأَلْبَس لِبَاس أَهْل الْحَضَارَة )) .. زَعَمْت !! ..
سَارَت الْأَسِرَّة وَطَارَت مِن أَرْض الْوَطَن وَبَقِيَت فِي بِلَاد أَوْرُوْبَا شُهْرَا كَامِلَا .. مَابَيْن الْلَّعِب وَالْعَبَث وَالْمَعْصِيَة لِلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى ..
وَفِي لَيْلَة قَضَتْهَا هَذِه الْأُسْرَة بَيْن سَمَاع الْمَزَامِيْر وَرُؤْيَة الْمُحَرَّمَات .. عَادَت الْفَتَاة إِلَى غُرْفَتِهَا وَقَبْل الْنَّوْم أَخَذَت تُقَلَّب تِلْك الْصُّوَر الَّتِي ألتَقِطَتِهَا وَالَّتِي لَيْس فِيْهَا ذَرَّة مِن حَيَاء .. ثُم أَخَذْت الْفَتَاة الْوِسَادَة وَتَنَاوَلْت سَمَاعَة الْرَّادِيُو ..
تُرِيْد أَن تَنَام مُبَكِّرَا .. لِأَن غَدَا يُوْجَد مِهْرَجَان غَنَائِي صَاخِب ..
نَامَت وَهِي تُفَكِّر كَم الْسَاعَة الْآَن فِي بَلَدِي .. ثُم أَيْقَظ تُذَكِّر بَلَدِهَا إِيْمَانُهَا الْنَّائِم وَقَالَت : (( مُنْذ حَضَرْنَا فِي هَذِه الْبِلاد وَنَحْن لَم نَسْجُد لِلَّه سَجْدَة وَاحِدَة )) .. وَالْعِيَاذ بِالْلَّه !! ..
قَامَت الْفَتَاة تُقَلَّب قَنَوَات الْمِذْيَاع الْمُعَد للنُزَلَاء وَإِذَا بِصَوْت يَنْبَعِث مِن رُكَام الْصُّرَاخ وَرُكَام الْعَوَيْل وَالْمُسَلْسَلَات وَالْأَغَانِي الْمَاجِنَات ( صَوْت الْأَذَان ) ..
صَوْت نَدِي وُصِل إِلَى أَعْمَاق قَلْبَهَا و أَحْيَا الْإِيْمَان فِي فُؤَادَهَا .. صُوْت مَن أَطْهَر مَكَان وَأَقْدَس بُقَعَة فِي الْأَرْض .. مِن بَلَد الْلَّه الْحَرَام .. نَعَم .. إِنَّه صَوْت إِمَام الْحُرُم الَّذِي إِنْسَاب إِلَى قَلْب هَذِه الْمِسْكِيْنَة فِي هَجْعَة الْلَّيْل .. إِنْسَاب إِلَى قَلْب هَذِه الْفَتَاة الَّتِي هِي ضَحِيَّة مِن بَيْن مَلَايِيْن الْضَّحَايَا ..
ضَحَايَا الْأَب الَّذِي لَا خَلَاق لَه .. وَضَحَايَا الْأُم الَّتِي مَا عَرَّفْت كَيْف تَصْنَع جِيْلا يَخَاف الْلَّه وَيُرَاقِبُه سُبْحَانَه وَتَعَالَى ..
تَقُوْل هَذِه الْمِسْكِيْنَة وَكُلُّهَا حَنِيْن إِلَى رَبِّهَا سُبْحَانَه وَتَعَالَى : (( سُمِعَت صَوْت الْقُرْآن وَهُو بَعِيْد غَيْر وَاضِح .. هَالَنِي الْصَّوْت .. حَاوَلَت مِرَارَا أَن أُصْفِي هَذِه الْإِذَاعَة الَّتِي وَصَلَت إِلَى الْقَلْب قَبْل أَن تَصِل إِلَى الْأُذُن ..
أَخَذَت أَسْتَمِع إِلَى الْقُرْآَن وَأَنَا أَبْكِي بَكَّاءُا عَظِيْمَا .. أَبْكَانِي بَعْدِي عَن الْقُرْآَن .. أَبْكَانِي بَعْدِي عَن الْإِسْتِقَامَة .. أَبْكَانِي بَعْدِي عَن الْلَّه عَز وَجَل .. أَبْكَانِي ذَلِك الْتَّفْرِيْط وَالْضِّيَاع .. أَبْكَانِي نَزْع الْحِجَاب .. أَبْكَتْنِي تِلْك المَلَابِس الَّلِي كُنْت أَرْتَدِيِهَا .. كُنْت أَبْكِي مِن بَشَاعَة مَا نَصْنَع فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ..
فَلَمَّا فَرَغ الْشَّيْخ مِن قِرَاءَتِه أَصَابَنِي الْحَنِيْن .. لَيْس لِلْوَطَن .. وَلَا لِلْمَكَان .. وَلَا لِلْجَمَال .. وَلَكِن الْحَنِيْن لِرَبِّي سُبْحَانَه وَتَعَالَى فَاطِر الْأَرْض وَالْسَّمَاء .. إِلَى الْرَّحِيْم الْرَّحْمَن إِلَى الْغَفُوْر الْوَدُوْد .. قُمْت مُبَاشَرَة .. فَتَوَضَّأْت وَصَلَّيْت مَا شَاء الْلَّه أَن أُصَلِّي .. لَم أُصَلِّي وَلَم أَسْجُد لِلَّه رَكْعَة خِلَال شَهْر كَامِل ..
ثُم عُدْت أَبْحَث عَن شَيْء يُؤْنِسُنِي فِي هَذِه الْوَحْشَة وَفِي هَذِه الْبِلاد .. فَلَم أَجِد سِوَى أَقْوَام قَال عَنْهُم رَبِّي سُبْحَانَه وَتَعَالَى : ( و الَّذِيْن كَفَرُوٓا يَتَمَتَّعُوْن و يَأْكُلُوْن كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام و الْنَّار مَثْوَى لَهُم ) .. بُحِثَت فِي حَقَائِبِي فَلَم أَجِد إِلَا صُوَرَا خَلِيْعَة وَأَرْقَام الْأَصْدِقَاء .. بُحِثَت فِي أَشْرَطَتِي عَن شَرِيْط قُرْآَن أَو مُحَاضَرَة .. فَلَم أَجِد سِوَى شَرِيْط الْغِنَاء .. فَكَان كُل شَيْء فِي هَذَا الْمَكَان يَزِيْد مِن غُرْبَتِي وَبَعْدِي عَن الْلَّه عَز وَجَل ..
بَقِيَت سَاهِرَة طَوَال الْلَّيْل .. أُحَاوِل أَن أَسْتَمِع إِلَى الْمِذْيَاع لَعَلَّه أَن يُسْعِف قَلْبِي بِآَيَة مِن كِتَاب الْلَّه .. لَعَلَّه يُسْعِف فُؤَادِي بِحَدِيْث .. لَأَنّنِي وَالْلَّه مَا شَعَرْت بِرَاحَة وَلَا أَمَان إِلَا بَعْد أَن أُسْتُمِعَت إِلَى تِلْك الْآَيَات ..
وَالْلَّه لَا طَبِيْعَة وَلَا جَمَال وَلَا أَلْعَاب وَلَا هَوَاء وَلَا نُزْهَة أَسْعَدَتْنِي كَمَا أَسْعَدَنِي الْقُرْآَن ..
جَاء الْفَجْر فَتَوَضَّأْت وَصَلَّيْت .. نَظَرْت إِلَى أَبِي !! .. نَظَرْت إِلَى أُمِّي !! .. نَظَرْت إِلَى أُخْوَانِي !! .. وَإِذَا بِهِم كُلُّهُم يَغُطُّون فِي نَوْم عَمِيْق .. فَزَاد هَذَا الْمَنْظَر حَزَنَا إِلَى حُزْنِي .. فَلَمَّا دَنَا الَذْهَاب إِلَى الْمَهْرَجَان .. إِسْتَيْقَظَت الْأَسِرَّة مِن الْنَّوْم الْعَمِيق وَأَنَا لَا أَزَال سَاهِرَة لَم أَذُق طَعْم الْنَّوْم .. فَقَرَّرْت الْبَقَاء بِالْغَرْفَة وَالْتَّظَاهُر بِالْمَرَض .. فَوَافَق الْجَمِيْع عَلَى بَقَائِي وَذَهَبُوا إِلَى هَذَا الْمُنْكَر ..
فَبَقِيَّت أَتَذَكَّر فِي تِلْك الِلَّحَظَات كَم مِن مَعْصِيَة لِلَّه عْصِيَّتِهَا وَكَم مِن طَاعَة فَرَّطْت فِيْهَا .. وَكَم مِن حَد مِن حُدُوْد الْلَّه إِنتَهكْتِه إِلَى أَن غَلَبَنِي الْنَّوْم ..
وَعَادَت الْأُسْرَة بَعْد يَوْم صَاخِب .. إِجْتَمَع الْجَمِيْع عَلَى وَجْبَة الْعِشَاء .. فَقَرَّرْت أَن أَتَقَدَّم وَأَن أَقُوْل كُل مَا لَدَي .. وَقَفَت أَمَام الْجَمِيْع .. حَاوَلْت الْكَلَام فَلَم أَسْتَطِع فَانْفَجَرَت بَاكِيَة .. فَوَقَف وَالِدَاي وَأَخَذَا يُهَدِئَانِي وَقَالَا هَل نَحْضُر لَك طَبِيْبَا قُلْت لَا .. لَكِن تِلْك الْدَّمْعَة الَّتِي خَرَجَت مِن عَيْنِي أُخْرِجَت مَعَهَا زَفَرَات كَانَت فِي صَدْرِي فَقَوِيَت نَفْسِي عَلَى الْحَدِيْث .. فَقُلْت يَا أَبِي لِمَاذَا نَحْن هُنَا ؟ .. يَا أَبِي لِمَاذَا مُنْذ قَدِمْنَا لَم نُصَلِّي وَلَم نَسْجُد لِلّه سَجْدَة ؟ .. يَا أَبِي لِمَاذَا لَم نَقْرَأ الْقُرْان ؟ .. يَا أَبِي أَعِدْنَا سَرِيْعَا إِلَى أَرْض الْوَطَن .. أَعِدْنَا إِلَى أَرْض الْإِسْلام .. يَا أَبِي إِتَّق الْلَّه فِي أَيَّامِي .. يَا أَبِي إِتَّق الْلَّه فِي آَلَامِي .. إِتَّق الْلَّه فِي دَمْعَاتِي .. )) ..
فتُفَاجَأ الْجَمِيْع بِهَذَا الْكَلَام .. وَذُهِل الْأَب وَالْأُم وَالْأُخُوَّة لِهَذِه الْفَتَاة الَّتِي لَم تَتَجَاوَز الْخَامِسَة عَشْرَة مِن عُمْرِهَا .. وَتَقُوْل كُل هَذَا الْكَلَام ..
حَاوَل الْأَب أَن يُبَرِّر الْمَوْقِف فَلَم يَسْتَطِع .. فَاضْطُر إِلَى الْسُّكُوْت .. وُفَكّر كَثِيْرَا فِي هَذَا الْكَلَام الَّذِي كَان يَسْقِي بِذْرَة الْإِيْمَان الْذَّابِلَة فِي قَلْبِه .. ثُم قَام وَأَخَذ يَسْتَعِيْذ بِالْلَّه مِن الْشَّيْطَان ..
تَقُوْل الْفَتَاة : (( وَالْلَّه لَكَأَن الْجَمِيْع كَانُوْا فِي نَوْم عَمِيْق ثُم إسْتَفَاقُوا فَجْأَة فَوَجَدُوْا أَنْفُسَهُم فِي بَرْكَه مِن الْقَاذُوْرَات )) ..
قَام الْأَب وَهُو يُرَدِّد إِسْتِعَاذَتِه مِن الْشَّيْطَان .. فَأَسْرَع وَحَجْز عَلَى أَقْرَب رِحْلَة وَعَادَت الْأَسِرَّة سَرِيْعَا لَأَرْض الْوَطَن ..
لَم يَكُن حَنِيْنَهُم إِلَى الْوَطَن بَل حَنِيْنَهُم إِلَى عِبَادَة الْلَّه عَز وَجَل وَالْأِنْس بِقُرْبِه ..