لكل مسلم على أخيه المسلم حقوقا ، و هذه الحقوق أوجبها عقد الإسلام ، و صارت لكل مسلم بهذا العقد حرمة ، لا يحل لأحد أن ينتهكها ، و قد أتت جملة من هذه الحقوق ، و بيان لهذه الحرمة من كلام النبي صلى الله عليه و سلم ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : " حقّ المسلم على المسلم ستّ : إذا لقيته فسلّم عليه ، و إذا دعاك فأجبه ، و إذا استنصحك فانصح له ، و إذا عطس فحمد الله فشمته ، و إذا مرض فعده ، و إذا مات فاتبعه " (متفق عليه)
و في بيان حرمة المسلم ، و ما لا يجوز للمسلم أن يقع فيه مع سائر المسلمين قوله صلى الله عليه و سلم :" إياكم و الظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، و لا تحسّسوا ، و لا تجسّسوا ، و لا تنافسوا ، و لا تحاسدوا ، و لا تباغضوا ، و كونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه و لا يخذله و لا يحقره ، التقوى ههنا … و يشير إلى صدره ، بحسب امرئ من الشرّ أ يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه و عرضه و ماله " (رواه الشيخان)
إنّ عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين ، و يترتب على هذا العقد حقوق المال و البدن و اللسان و القلب ، و بمراعاة هذه الحقوق تدوم المودة و تزداد الألفة ، و يدخل المتعاقدين في زمرة المتحابين في الله ، و ينالان من الأجر و الثواب ما أسلفناه
1) حقوق الأخوة في المال :
- فمن حقوق المال الواجبة إنظاره إلى ميسرة إن كان غريما ، قال تعالى :" و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" (البقرة 280) ، و قال صلى الله عليه و سلم :" من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا و الآخرة" ( مسلم و غيره)
- و من حقوق الأخوة المواساة بالمال : و هي كما قال العلماء على ثلاث مراتب :
1) أدناها أن تقوم بحاجته من فضل مالك،فإذا سنحت له حاجة،وكان عندك فضل، أعطيته ابتداءً ولم تحوجه إلى السؤال،فإن أحوجته إلى السؤال،فهو غاية التقصير في حقّ الأخوة
2) الثانية: أن تنزله منزلة نفسك ، و ترضى بمشاركته إياك في مالك
قال الحسن : كان أحدهم يشقّ إزاره بينه و بين أخيه ، و جاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه و قال : إني أريد أن أواخيك في الله ، فقال : أتدري ما حق الإخاء ؟ قال : عرّفني ، قال أن لا تكون أحقّ بدينارك و درهمك مني ، قال : لم أبلغ هذه المنزلة بعد ، قال اذهب عني
و قال علي بن الحسين لرجل : هل يُدخل أحدكم يده في كمّ أخيه أو كيسه ، فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه ؟ قال : لا ، قال : فلستم بإخوان
3) الثالثة : و هي العليا ، أن تؤثره على نفسك ، و تقدّم حاجته على حاجتك ، و هذه رتبة الصديقين ، و منتهى درجات المحبين
قال ابن عمر رضي الله عنهما : أهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رأس شاة ، فقال : أخي فلان أحوج مني إليه ، فبعث به إليه ، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول ، بعد أن تداوله سبعة
فكانت هذه المرتبة العليا من الإيثار ، هي مرتبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم
عن حميد قال : سمعت أنسا رضي الله عنه قال : لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار ، فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد ابن الربيع ، فقال : أقاسمك مالي ، و أنزل لك عن إحدى امرأتي ، قال : بارك الله لك في أهلك و مالك ، فآثره بما آثره به ، و كأنه قبله ثم آثره به
و قد مدحهم الله عزّ و جلّ بقوله : " و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة " ( الحشر٩
قال أبو سليمان الداراني : كان لي أخ بالعراق ، فكنت أجيئه في النوائب ، فأقول : أعطني من مالك شيئا ، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد ، فجئته ذات يوم فقلت : أحتاج إلى شيء فقال : كم تريد ؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي و قال آخر:إذا طلبت من أخيك مالا فقال:ماذا تصنع به فقد ترك حقّ الإخاء .
فهذه مراتب المواساة بالمال ، فإن لم توافق نفسك رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أنّ عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن ، و إنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل و الدين ، قال ميمون بن مهران : "من رضي من الإخوان بترك الأفضال ، فليؤاخ أهل القبور "
2) حقوق الأخوة في البدن :
و يقصد بها الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات ، و القيام بها قبل السؤال ، و تقديمها على الحاجات الخاصة ، و هذه أيضا لها درجات كالمواساة بالمال
1) أدناها القيام بالحاجة عند السؤال و القدرة مع البشاشة و الاستبشار و إظهار الفرح و قبول المنة :
قال النبي صلى الله عليه و سلم:"من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ،ومن يسّر على معسّر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ،و من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة ،و الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "
أرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم ، و قال : مروا بثابت البناني فخذوه معكم ، فمروا بثابت فقال : أنا معتكف ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال لهم : قولوا له يا أعمش أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجّة بعد حجة ، فرجعوا إلى ثابت فأخبروه ، فترك اعتكافه و خرج معهم
2) الدرجة الثانية : أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك :
كان بعض السلف يتفقّد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة ، يقوم بحاجتهم ، و يتردّد كل يوم إليهم و يمونهم من ماله ، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه
3) أن تقدّم حاجة أخيك على حاجتك ، و تبادر إلى قضائها و لو تأخرت حاجتك
قضى ابن شبرمة لبعض إخوانه حاجة كبيرة ، فجاء بهدية ، قال : ماهذا؟ قال : لما أسديته إليّ ، قال : خذ مالك عافاك الله ، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها ، فتوضأ للصلاة و كبّر عليه أربع تكبيرات ، و عدّه من الموتى
و كان الحسن يقول:إخواننا أحبّ إلينا من أهلنا و أولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا ، و إخواننا يذكرون بالآخرة ويدخل في حق المسلم علىأخيه المسلم زيارته له في الله عزّو جلّ ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟النبي في الجنة ، و الشهيد في الجنة ، و الصديق في الجنة ، و الرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة "
و من الصور المشرقة للزيارة في الله عزّ و جلّ ، و ما ينبغي أن تشتمل عليه من الأخلاق و الآداب ، ما كان بين أبي عبيد القاسم ابن سلام و أحمد بن حنبل رحمهما الله ، قال أبو عبيد : "زرت أحمد بن حنبل في بيته فأجلسني في صدر داره ، و جلس دوني ، فقلت : يا أبا عبد الله ، أليس يقال : صاحب البيت أحقّ بصدر بيته؟ فقال : نعم ، يقعد و يُقعِد من يريد ، قال : فقلت في نفسي : خذ إليك يا أبا عبيد فائدة ، قال : ثم قلت له : يا أبا عبد الله ، لو كنت آتيك على نحو ما تستحقّ لأتيتك كلّ يوم ، فقال : لا تقل ، إن لي إخوانا لا ألقاهم إلا في كلّ سنة مرة ، أنا أوثق بمودّتهم ممن ألقى كل يوم ، قال : قلت : هذه أخرى يا أبا عبيد ، فلما أردت أن أقوم قام معي فقلت : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فقال: قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار ، و تأخذ بركابه قال : فقلت يا أبا عبيد هذه ثالثة ، قال : فمشى معي إلى باب الدار و أخذ بركابي
و من هذه الصور المشرقة لزيارة السلف بعضهم لبعض و فرحهم بهذه اللقاءات الداعية لمزيد من الإيمان و الحبّ في الله عزّ و جلّ ما رواه الخطيب البغدادي في "تاريخه" عن النقاش أنه قال : " بلغني أنّ بعض أصحاب محمد بن غالب أبي جعفر المقرئ جاءه في يوم وحلٍ وطين ، فقال له : متى أشكر هاتين الرجلين اللتين نعبتا إليّ، في مثل هذا اليوم لتكسباني في الثواب؟ثم قام بنفسه فاستسقى له الماء،و غسل رجليه "
3) حقوق الأخوة في اللسان :
و هي بالسكوت تارة و بالنطق أخرى
1) السكوت على المكاره :
1- لا يذكر عيوبه :
فمن حق الأخ على أخيه،أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته و حضرته،بل يتجاهل عنه أما ذكر عيوبه و مساويه في غيبته فهو من الغيبة المحرمة ، و ذلك حرام في حق كل مسلم ، و يزجرك عنه أمران بالإضافة إلى زجر الشرع : أحدهما : أن تطالع أحوال نفسك ، فإن وجدت فيها شيئا واحدا مذموما ، فهوِّن على نفسك ما تراه من أخيك ، و قدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة ، كما أنت عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة ، كما أنت عاجز عما أنت مبتلى به ، و الأمر الثاني : أنك تعلم أنك لو طلبت منزها عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ، و لم تجد من تصاحبه أصلا
كما قال النابغة الذبياني :
:
و لست بمستبق أخا لا تلُمُّه *** على شعث أيّ الرجال المهذّب
فما من أحد من الناس إلا و له محاسن و مساوئ ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية ، و المؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير و الودّ و الاحترام ، و أما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ و العيوب
قال ابن المبارك : المؤمن يطلب المعاذير ، و المنافق يطلب العثرات
و قال الفضيل : الفتوة العفو عن زلات الإخوان
2- أن لا يفشي أسراره :
و من ذلك أن يسكت عن إفشاء أسراره و لا إلى أخصّ أصدقائه ، و لو بعد القطيعة و الوحشة ، فإن ذلك من لؤم الطبع و خبث النفس
قيل لبعض الأدباء : كيف حفظك للسر؟ قال : أنا قبره .
و أفشى بعضهم سرا إلى أخيه ثم قال له حفظت ، قال : بل نسيت .
و قالوا : قلوب الأحرار قبور الأسرار
كان أبو سعيد الثوري يقول : إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك فإن قال خيرا و كتم سرا فاصحبه
3- أن لا يجادله و لا يماريه :
و من ذلك أن يسكت عن مماراته و جداله :
قال بعض السلف : من لاحى الإخوان و ماراهم ، قلّت مروءته ، و ذهبي كرامته
و قال عبد الله بن الحسن:إياك و مماراة الرجال، إنك لن تعدم مكر حليم ، أو مفاجأة لئيم
و بالجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميّز بمزيد العقل و الفضل ، واحتقار المردود عليه بإظهار جهله و بالغ بعضهم في ترك المراء و الجدال فقال : إذا قلت لأخيك قم ، فقال : إلى أين؟ فلا تصحبه ، بل ينبغي أن يقوم و لا يسأل
والمراء يفتن القلب وينبت الضغينة و يجفي القلب و يقسيه ويرقق الورع في المنطق و الفعل
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :" قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "من ترك المراء و هو مبطل بنى له بيت في ربض الجنة ، و من تركه و هو محقّ بنى له في وسطها ، و من حسن خلقه بنى له في أعلاها" (رواه أبو داود و غيره)
قال خالد بن يزيد بن معاوية الأموي :"إذا كان الرجل مماريا لجوجا معجبا برأيه فقد تمت خسارته "
قال الحسن البصري :"إياكم و المراء ، فإنه ساعة جهل العالم ، و بها يبتغي الشيطان زلّته"
2) النطق بالمحاب :
و كما تقتضي الأخوة السكوت عن المكاره ، تقتضي أيضا النطق بالمحاب ، بل هو أخص بالأخوة ، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور
1- التودد باللسان :
فمن ذلك أن يتودد إليه بلسانه ، و يتفقده في الأحوال التي يحب أن يتفقد فيها ، و كذا جملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها ، فمعنى الأخوة المساهمة في السراء و الضراء
2- إخباره بمحبته :
و من ذلك أن يخبره بمحبته له : عن أنس بن مالك قال : مر رجل بالنبي صلى الله عليه و سلم و عنده ناس ، فقال رجل ممن عنده : إني لأحب هذا لله ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم :"أعلمته؟" قال : لا ، قال : " قم إليه فأعلمه " فقام إليه فأعلمه ، فقال : أحبّك الذي أحببتني له ثم قال ، ثم رجع فسأله النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم :"أنت مع من أحببت ، و لك ما احتسبت " (رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي)
و عن المقدام بن معدى كرب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه " (رواه أحمد و غيره)
و إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالإخبار ، لأن ذلك يوجب زيادة حب ، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة ، فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين و يتضاعف ، و التحابب بين المسلمين مطلوب في الشرع محبوب في الدين ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، و لا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا
فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم " ( رواه مسلم ، و قال النووي : قوله :" لا تؤمنوا حتى تحابوا " معناه لا يكمل إيمانكم ، و لا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب "
3- دعوته بأحبّ الأسماء إليه :
و من ذلك أن يدعوه بأحبّ أسمائه إليه في غيبته و حضوره ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يصفين لك ودّ أخيك : أن تسلّم عليه إذا لقيته أولا ، و توسّع له في المجلس ، و تدعوه بأحب الأسماء إليه
4- الثناء عليه :
و من ذلك : أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله و آكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه ، مع إظهار الفرح ، فإن إخفاء ذلك محض الحسد ، و ذلك من غير كذب و لا إفراط ، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة
5- الذّبّ عنه في غيبته :
و أعظم من ذلك تأثيرا في جلب المحبة ، الذبّ عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرّض لعرضه بكلام صريح ، أو تعريض ، فحق الأخوة التشمير في الحماية و النصرة و تبكيت المتعنت و تغليظ القول عليه ، و السكوت عن ذلك موغر للصدر و منفر للقلب ، و تقصير في حق الأخوة
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه و لا يحرمه و لا يخذله " (رواه مسلم)
6- التعليم و النصيحة :
و من ذلك التعليم و النصيحة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله ، قال : " لله و لكتابه ، و لرسوله ، و لأئمة المسلمين و عامتهم " (رواه مسلم) ، و بخاصة إذا استنصح الأخ أخاه وجب عليه أن يخلص له النصيحة ، كما سلف في الحقوق العامة للمسلمين ، و ينبغي أن تكون النصيحة في سرّ لا يطلع عليه أحد فما كان على الملإ فهو توبيخ و فضيحة ، و ما كان في السر ، فهو شفقة و نصيحة
قال الشافعي رحمه الله : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه و زانه ، و من وعظه علانية فقد فضحه و شانه و قال رحمه الله :
:
تعمّدني بنصحك في انفرادي *** و جنّبني النصيحة في الجماعة
فإنّ النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
و إن خالفتني و عصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
و تتأكد النصيحة كذلك إذا تغيّر أخوك عما كان عليه من العمل الصالح
قال أبو الدرداء : إذا تغيّر أخوك ، و حال عما كان عليه ، فلا تدعه لأجل ذلك ، فإن أخاك يعوج مرة و يستقيم مرة ، و حكى عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة ، فقيل لأخيه : ألا تقطعه و تهجره؟ فقال: أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده ،و أتلطف له في المعاتبة، و أدعو له بالعود إلى ما كان عليه
و الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة ، فإذا انعقد تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد ، و من الوفاء به أن لا يهمل أخاه أيام حاجته و فقره ، و فقر الدين أشدّ من فقر المال ، و الأخوة عند النائبات و حوادث الزمان ، و هذا من أشدّ النوائب
و القريب ينبغي أن لا يهجر من أجل معصيته ، حتى يقام له بواجب النصيحة ، و ذلك لأجل قرابته ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في عشيرته : " فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون " ( الشعراء 216)
و لم يقل : إني برئ منكم ، مراعاة لحق القرابة و لحمة النسب ، و لهذا أشار أبو الدرداء لما قيل له : ألا تبغض أخاك و قد فعل كذا؟ فقال : إنما أبغض عمله و إلا فهو أخي
و كذا التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان ، كما أن مقارفة العصيان من محابه ، فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه ، فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني
7- الدعاء له في حياته و بعد مماته :
و من ذلك الدعاء لأخيه في حياته و بعد مماته :
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : و لك بمثل (رواه مسلم)
قال النووي رحمه الله : في هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ، و لو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ، و لو دعا لجملة من المسلمين فالظاهر حصولها أيضا ، و كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب و يحصل له مثلها ، جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون –أحد القراء المشهورين – قال : كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه و كان يدعو لهم كل ليلة ، فتركهم ليلة فنام ، فقيل له في نومه يا أبا حمدون : لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة ، قال : فقعد فأسرج ، و أخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ
4) حقوق الأخوة في القلب :
من حق المسلم على أخيه في الله عز و جل الوفاء و الإخلاص في محبته و صحبته ، و علامة ذلك أن تدوم المحبة ، و أن يجزع من الفراق ، و من حقه أن تحسن به الظن ، و أن تحمل كلامه و تصرفاته على أطيب ما يكون ، و من ذلك أن لا يكلف أخاه التواضع له ، و التفقد لأحواله ، و القيام بحقوقه
1) الوفاء و الإخلاص :
و معنى الوفاء الثبات على الحب و إدامته إلى الموت معه ، و بعد الموت مع أولاده و أصدقائه ، فإنّ الحبّ في الله إنما يراد به ما عند الله عزّ و جلّ ، فلا ينتهي بموت أخيه
قال بعضهم : قليل الوفاء بعد الوفاة ، خير من كثيره في حال الحياة ..
و قد جاء أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم أكرم عجوزا أدخلت عليه فقيل له في ذلك ، فقال :"إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، و إنّ حسن العهد من الإيمان"(صححه الحاكم و الذهبي و حسنه الألباني في الضعيفة)
- و من الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه و أقاربه و المتعلقين به
-و من الوفاء:أن لا يتغيّر حاله مع أخيه ، و إن ارتفع شأنه واتّسعت ولايته و عظم جاهه
قال بعضهم :
إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في المنزل الخشن
و أوصى بعض السلف ابنه فقال له : يا بنيّ لا تصحب من الناس ، إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك ، و إذا استغنيت عنه لم يطمع فيك ، و إن علت مرتبته لم يرتفع عليك و مهما انقطع الوفاء بدوام المحبة ، شمت به الشيطان ، فإنه لا يحسد متعاونين على بر ،كما يحسد متواخيين في الله و متحابين فيه ، فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما ، قال تعالى :" و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنّ الشيطان ينزغ بينهم " ( الإسراء 53)
قال بعضهم : ما تواخى اثنان في الله فتفرّق بينهما ، إلا بذنب يرتكبه أحدهما
و كان بشر يقول : إذا قصر العبد في طاعة الله ، سلبه الله من يؤنسه ، و ذلك لأنّ الإخوان مسلاة الهموم و عون على الدين
و لذلك قال ابن المبارك : ألذّ الأشياء مجالسة الإخوان ، و الانقلاب إلى كفاية
و من آثار الصدق و الإخلاص و تمام الوفاء ، أن تكون شديد الجزع من المفارقة ، نفور الطبع عن أسبابها ، كما قيل :
وجدت مصيبات الزمان جميعها *** سوى فرقةِ الأحبابِ هيّنةَ الخَطْب
و أنشد ابن عُيينة هذا البيت و قال : لقد عهدت أقواما فارقتهم منذ ثلاثين سنة ، ما يخيّل إليّ أن حسرتهم ذهبت من قلبي
- و من الوفاء أن لا يسمع بلاغات عن صديقه
- و من الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه : قال الشافعي رحمه الله : إذا أطاع صديقك عدوك ، فقد اشتركا في عداوتك
2) حسن الظنّ :
و من حقوق الأخوة حسن الظنّ بأخيه :
قال الله تعالى"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ فإنّ بعد الظنّ إثم"(الحجرات 12)
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : "إياكم و الظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث " ( رواه الشيخان) ، و إذا كان هذا مطلوب في المسلمين عامة ، فيتأكّد ذلك بين المتآخين في الله عزّ و جلّ و من مناقب الإمام الشافعي ما قاله أحد تلامذته عنه الربيع بن سليمان قال : " دخلت على الشافعي و هو مريض فقلت له :قوى الله ضعفك ، فقال : لو قوى ضعفي قتلني ، فقلت : والله ما أردت إلا الخير ، قال : أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير "
فينبغي أن يحمل كلام الإخوان على أحسن معانيه ، و أن لا يظن بالإخوان إلا خيرا ، فإن سوء الظن غيبة القلب
3) التواضع :
و من حقوق الأخوة القلبية أن يتواضع لإخوانه ، و يسيء الظن بنفسه فإذا رآهم خيرا من نفسه يكون هو خيرا منهم
قال أبو معاوية الأسود : إخواني كلهم خير مني ، قيل و كيف ذلك؟ قال : كلهم يرى لي الفضل عليه ، و من فضلني على نفسه فهو خير مني
و مهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه ، و هذا في عموم المسلمين مذموم ، قال صلى الله عليه و سلم : " بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم " (رواه الشيخان)